الآية رقم (110) - لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا﴾: البنيان: هو مسجد ضرار، أرادوا به ضرّاً وكفراً وتفريقاً وإرصاداً لمن حارب الله سبحانه وتعالى  ورسوله، وقد كشف الحقُّ تبارك وتعالى الأمرَ لرسوله عليه أفضل الصّلاة والسّلام، وبيّن له وللمؤمنين ما كانوا يخطِّطونه، وعندما جاء الأمر للنّبيّ : بألّا يقم فيه، أرسل صحابته ليهدموه.

﴿رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾: فبعد أن هدم رسول الله ﷺ البنيان وذهب أمْرُ هذا المسجد، بقي أمْرُ هذا البنيان موضع شكٍّ في نفوسهم، وصاروا يتوجّسون أن يُنزِل بهم رسول الله ﷺ العقاب ويصيبهم بسوءٍ، ولا سبيل لذهاب هذا الشّكّ من قلوبهم إلّا أن تقطّع تلك القلوب بالموت، فالشّكّ والرّيبة محلّها القلب، وهو العضو الثّاني في استبقاء الحياة بعد المخّ، فما دامت خلايا المخّ سليمةً فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابةٍ، أمّا القلب فحين يتوقّف فإنّ الأطبّاء يحاولون أن يعيدوا له الحركة بوسيلةٍ ما، وقد يفلحون بذلك مادامت خلايا المخّ سليمةً، وفي القرآن الكريم نرى أنّ القلب هو محلّ الاعتقاد، يقول سبحانه وتعالى :﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ]الحجّ: من الآية 46[، والمعتقدات تنشأ من المحسوسات، وتتكوّن في الفؤاد لتصير عقائد ولا تعود للمناقشة من جديدٍ، فالعقل يبدأ ويناقش المسائل والبدائل والمعطيات والمقدّمات كلّها، وعندما ينتهي العقل، ويحسم الأمر، ويقترن بالفكرة، تستقرّ في القلب، فتصبح عقيدةً يُعقَد عليها، لذلك تُسمّى عقيدةً، وهنا يوضّح الحقّ سبحانه وتعالى  أنّ هذا البنيان سيظلّ أثره في قلوبهم ولن ينتهي إلّا بشيءٍ واحدٍ وهو أن تقطّع قلوبهم، والقلوب لا تتقطّع إلّا بالموت، وكأنّ الشّكّ من هذا البنيان سيظلّ يلاحقهم إلى أن يموتوا.

أو: ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ ؛ أي تتقطّع أسفاً وحزناً على ما فعلوه، ومن هنا يتبيّن لنا أمرٌ مهمٌّ، فالآيات جاءت لتبيّن للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنّ وظيفة ورسالة المسجد هي رسالة الخير للغير، هي رسالة العطاء، ورسالة الرّحمة، وليست رسالة التّآمر والكره، لذلك قال سبحانه وتعالى :﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ ]النّور[، وقال U:﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ ]الجنّ[، فلا يجوز استغلال المسجد لغير ما أُمر به، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى  وذكره جل جلاله فيه، فعندما يُستغلّ المسجد لأمرٍ دنيويٍّ وللتّآمر والتّفريق وإحداث شرخٍ في المجتمع فإنّ الحكم كما ورد في القرآن الكريم بأنّه يكون مسجد ضرارٍ قال سبحانه وتعالى :﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فلا يجوز في أيّ حالٍ من الأحوال أن يكون المسجد أداة تفريقٍ بين المؤمنين، فهو يجمع النّاس، ورسالته هي رسالة المساواة والخير، فالنّاس جميعاً متساوون فيه كأسنان المشط، يدخل الأمير والمأمور، والغنيّ والفقير، والرّجل والمرأة، لا مكانة لأحدٍ في المسجد إلّا بقربه من ربّه سبحانه وتعالى ، وهنا تظهر الوحدة المجتمعيّة، وقد قال سبحانه وتعالى في بعض الكتب: «إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زواري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، فحقّ على المزور أن يُكرم زائره»([1])، وما حدث في مسجد ضرار الّذي بناه المنافقون إرصاداً وتفريقاً وكفراً هو أمرٌ مقصورٌ عليه بحدّ ذاته، وهي حالةٌ خاصّةٌ تُحدّ ولا تُعَمّم، فلا نقول: إنّ المساجد كلّها هكذا، ونعمّم الأمر، فأكبر الأخطاء من التّعميم، وهذه الآيات تُعطي الصّورة الحقيقيّة بأنّ الإسلام لا يقبل بحالٍ من الأحوال أن يكون المسجد لغير الله سبحانه وتعالى ، وأن يكون مُنطَلَقاً للتّآمر على خلقه سبحانه وتعالى، أو أن يكون من أجل تفريقهم، وإنّما تكون المساجد للخير، والنّاس فيها يستمعون إلى كلام الله سبحانه وتعالى ، ويتعبّدونه، ويطهّرون قلوبهم ونفوسهم وأرواحهم، ومكانة المسجد مرتبطةٌ بحبّنا لإسلامنا وديننا، وتعاليم الإسلام هي عقيدةٌ راسخةٌ في نفوس المؤمنين به، وليست ثقافةً عابرةً أو ترداداً لكلماتٍ وشعاراتٍ كما حاول بعضهم تصويرها، وإنّ من أخطر المظاهر أن يتحوّل الإسلام إلى عباراتٍ وألفاظٍ وشعاراتٍ وشعائر فقط وتُهمل المقاصد، بل يجب الرّبط بين الشّعائر والمقاصد، فالصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعندما يتحدّث المولى تبارك وتعالى ويبيّن لنا واقع مسجدٍ واحدٍ بُني ليفرّق بين النّاس، قال للنّبيّ عليه أفضل الصّلاة والسّلام: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾؛ أي أعطى رسالةً إلى رسوله ﷺ بأنّ هذا المسجد يجب أن يُهدم، ليكون درساً للمسلمين كلّهم.

([1]) فيض القدير: حرف الهمزة، الحديث رقم (2258).

«لا»: نافية.

«يَزالُ»: مضارع ناقص والجملة مستأنفة.

«بُنْيانُهُمُ»: اسمها مرفوع والهاء مضاف إليه.

«الَّذِي»: اسم موصول صفة بنيانهم.

«بَنَوْا»: ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة والواو فاعل والجملة صلة.

«رِيبَةً»: خبر لا يزال منصوب.

«فِي قُلُوبِهِمْ»: متعلقان بصفة محذوفة لريبة.

«إِلَّا»: أداة استثناء.

«أَنْ»: ناصبة.

«تَقَطَّعَ»: مضارع منصوب بأن.

«قُلُوبِهِمْ»: فاعل والهاء مضاف إليه والجملة في محل نصب على الاستثناء.

«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»: الواو استئنافية ومبتدأ وخبراه والجملة مستأنفة.

رِيبَةً: شكّا وحيرة.

تَقَطَّعَ: تنفصل وتنفرق قلوبهم أجزاء، بأن يموتوا.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه. حَكِيمٌ في صنعه بهم.