﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾: التّربُّص: التّحفُّز لوقوع شيء بالآخرين، تقول: فلان يتربّص بي، يعني: يلاحظني ويتابعني، ينتظر منّي هَفْوة أو خطأ، فقوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾؛ أي: فكُلٌّ مِنَّا يتربّص بالآخر؛ لأنّنا أعداء، كلٌّ منّا ينتظر من الآخر هفوة ويترقّب ماذا يحدث له، وما دام الأمر كذلك فتربَّصُوا بنا كما تحبّون، ونحن نتربّص بكم كما نريد؛ لأنّ تربّصنا بكم يفرحنا، وتربّصكم بنا يُؤلمكم ويُحزنكم.
ومعنى ﴿قُلْ﴾: هنا أنّ القول: ﴿كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ﴾ ليست من عند محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فليس في يده زمام الكون ولا يعلم الغيب، فهو قَوْل الله عزَّ وجلَّ الّذي قال له: ﴿قُلْ﴾ يا محمّد: ﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾، فقيلتْ مِمَّن يملك زمام الأمور وأعنّتها، ولايخرج شيء عن مراده جل جلاله، وربّما لو قُلْت لكم من عندي تقولون: كلام بشر لا يملك من الأمور شيئاً، فخذوها لا بمقياس كلام البشر، إنّما بمقياس مَنْ يملك زمام أقْضية البشر كلّها.
﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى﴾: متى سيحدث هذا؟ ساعةَ تقوم السّاعة حيث الانصراف، إمّا إلى جنّة، وإمّا إلى نار، ساعتها ستعلمون مَنْ أصحاب الصّراط السّويّ، نحن أمْ أنتم؟ لكنّه سيكون عِلْماً لا ينفع ولا يُجدي، فقد جاء بعد فوات الأوان، جاء وقت الحساب لا وقت العمل وتلافي الأخطاء، إنّه عِلْمٌ لا يترتّب عليه عمل ينجيكم، فقد انتهى وقت العمل، وهكذا يكون عِلْماً يُزيد حسرتهم، ويُؤذيهم ولا ينفعهم.
﴿الصِّرَاطِ﴾: الطّريق المستقيم.
﴿السَّوِيِّ﴾: المستقيم الّذي لا عِوَجَ فيه ولا أَمْت.
﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾: لأنّه قد يوجد الصّراط السّويّ، ولا يوجد مَنْ يسلكه، فالمراد: الصّراط السَّويّ ومَن اهتدى إليه وسلَكه.
وقد يظنّ ظانٌّ أنّ مسألة التّربُّص هذه قد تطول، فيقطع الحقّ سبحانه وتعالى هذا الظّنّ بقوله في سورة الأنبياء الآتية بَعدْ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾[الأنبياء: من الآية 1]، وهكذا تنسجم السُّورتان، ويتّصل المعنى بين الآيات.