الآية رقم (2) - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾: قد: للتّحقيق، ﴿فَرَضَ﴾: فعل ماضٍ يدلّ على أنّ حدث الفعل وقع في الزّمن الماضي، فكفّارة اليمين قد أوجبها الله سبحانه وتعالى قبل وقوع اليمين من رسول الله ﷺ، وكأنّ النّبيّ ﷺ قد أقسم يميناً عندما ذكر أنّه لن يشرب العسل مرّة أخرى، فالله سبحانه وتعالى فرض كفّارة اليمين، والفرض هو التّكليف الّذي كلّفنا الله سبحانه وتعالى به، وقد اختلف العلماء هل كفّر النّبيّ ﷺ عن يمينه أو لم يكفّر؟ أو أنّ المطالَب بتكفير اليمين غير رسول الله ﷺ؟ قال الحسن البصريّ: إنّ رسول الله ﷺ لم يكفّر عن يمينه؛ لأنّه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، إّنما هو تعليم للمؤمنين.

وهل امتناع رسول الله ﷺ عن أكل العسل، أو حلفه على هذا مرضاة لأزواجه يُعَدّ ذنباً لكي يقال: عليه أن يُكفِّر عن يمينه؟ الجواب: كفّارة اليمين كانت لرسول الله ﷺ ولعموم المسلمين، وإذا تأمّلنا الآيتين معاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾، ثمّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾، الآية الأولى تكلّمت عن التّحريم، ولم تُحدِّثنا عن يمين أقسمه الرّسول ﷺ، والآية الثّانية تُحدِّثنا عن كفّارة اليمين، فهل معنى هذا أنّ مجرّد التّحريم دون قسم يُعدّ يميناً وقسماً؟ اختلف النّاس في هذا، ولكن سواء كان مجرّد التّحريم يُوجب الكفّارة، أم أنّه اقترن عند رسول الله ﷺ بيمين، كما جاء في بعض روايات الحديث، فالآية تُوجب تحلّة يمين، أو بمعنى آخر كفّارة يمين، وكفّارة اليمين ذكرها الله عز وجلَّ، فقال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة]، والكفّارة ستر العقوبة، وليس معنى هذا أنّ الإنسان تلزمه الكفّارة ما دام قد عقّد الأيمان، وأقسم يميناً مؤكّداً، فالكفّارة تكون فقط حين يحنث في القسم ولا يبرّ به، فتكون الكفّارة أحد أربعة أشياء: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تُطعمون أهليكم، أو كسوة عشرة مساكين، أو تحرير رقبة بإعتاق عبد أو غيره إن وُجِد، أو صوم ثلاثة أيّام لمن لم يجد، والحقّ سبحانه وتعالى عندما قال في سورة التّحريم: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾، فهو سبحانه وتعالى يُشير إلى الكفّارة الّتي في سورة المائدة، فسورة التّحريم نزلت بعد سورة المائدة، وقد يسأل سائل: ولكنّ الرّسول ﷺ لم يحنث في يمينه حتّى تجب عليه الكفّارة؟ نعم رسول الله ﷺ لم يحنث في يمينه، بمعنى أنّه لم يُخالف يمينه فذهب وشرب عسلاً، ولكنّ الكفّارة شرعها الله سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾؛ أي: شرع لكم وقدّر ما به تنحلّ أيمانكم قبل الحنث.

و﴿تَحِلَّةَ﴾: أصلها تحللة، فأُدغِمت اللّامان، وهي من مصادر التّفعيل، كالتّوصية والتّسمية، فكأنّ اليمين عقد، والكفّارة حلّ؛ لأنّها تُحلّ للحالف ما حرّمه على نفسه، فكلمة ﴿تَحِلَّةَ﴾ دليل على أنّ رسول الله ﷺ لم يحنث في يمينه، فالتّحلة لا تكون بعد الحنث، وإنّما تكون التّحلّة إذا أُخرجت قبل الحنث لينحلّ اليمين، فإنّه بالحنث ينحلّ اليمين وتجب حينها الكفّارة؛ لأنّها كفّرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله عز وجلَّ، فإعجاز النّظم القرآنيّ هنا أنّه لم يذكر شيئاً عن الكفّارة، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: (قد فرض الله عليكم كفّارة أيمانكم)، بل قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾.

﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾: المتولّي لشؤونكم، وكلمة: (مولى) تأخذ معنى القريب والنّاصر والمعين الّذي نفزع إليه في الشّدائد، ثمّ يُنهي الحقّ سبحانه وتعالى الآية بقوله:

﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾: يصف الحقّ سبحانه وتعالى نفسه بصفتين: العلم والحكمة، فهو سبحانه وتعالى العليم؛ أي: الّذي يعلم كلّ شيء خافياً كان أم ظاهراً، والعلم كلّه منه سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى العليم بالنّيّات ومدى إخلاصنا، ويعلم ما في صدورنا قبل أن ننطق به، وهو سبحانه وتعالى العليم بالمناسب لكلّ حال، والعليم أبداً بما ينفع النّاس جميعاً، وبما تتطلّبه الحكمة علماً يحيط بالزّوايا والجهات كلّها، والعليم بما يجول في الخواطر، ثمّ إنّه الحكيم الّذي لا يصدر منه الشّيء إلّا بحكمة بالغة، وهو الحكيم في فعله وتقديره وتصرّفه، يضع كلّ أمر في مكانه الدّقيق، ولا يأمر إلّا بما فيه مصلحة.

«قَدْ فَرَضَ اللَّهُ» قد حرف تحقيق وماض وفاعله والجملة استئنافية لا محل لها

«لَكُمْ» متعلقان بالفعل

«تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» مفعول به مضاف وأيمانكم مضاف إليه

«وَ» الواو حالية

«اللَّهُ مَوْلاكُمْ» مبتدأ وخبره والجملة حال.

«وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» معطوف على ما قبله.

{تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} … تَحْلِيلَ أَيْمَانِكُمْ بِأَدَاءِ الكَفَّارَةِ عَنْهَا.

{مَوْلَاكُمْ} … نَاصِرُكُمْ، وَمُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ.