لـمّا قال الحقّ تعالى في الآية قبل السّابقة من سورة الحجّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحجّ]، أراد تعالى هنا أن يؤكّد على فلاح المؤمنين، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وأنّ الرّجاء من الله تعالى واقع ومؤكّد، لذلك جاء بأداة التّحقيق: ﴿قَدْ﴾ الّتي تُفيد تحقُّق وقوع الفعل، وهكذا تنسجم بداية سورة (المؤمنون) مع نهاية سورة (الحجّ)، وقال تعالى هناك: ﴿تُفْلِحُونَ﴾ [الحجّ: من الآية 77]، وهنا: ﴿أَفْلَحَ﴾ مادّة (فلح) مأخوذة من فلاحة الأرض، والفَلْح هو الشّقّ؛ لذلك قالوا: إنّ الحديد بالحديد يُفلَح، وشَقُّ الأرض: إهاجتها وإثارتها بالحرث، وهذه العمليّة هي أساس الزّرع، ومن هنا سُـمِّي الزّرع حَرْثاً في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[البقرة].
﴿أَفْلَحَ﴾: فاز بأقصى ما تتطلّع إليه النّفس من خير.
فالحقّ تبارك وتعالى يُعطينا صورة من واقعنا المشاهد، ويستعير من فلاحة الأرض ليعبّر عن فلاح المؤمن وفوزه بالنّعيم المقيم في الآخرة، فالفلّاح يحرث أرضه، ويسقيها، ويرعاها، فتعطيه الحبّة بسبعمئة حبّة، وهكذا سيكون الجزاء في الآخرة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة]، فإذا كانت الأرض المخلوقة لله عزَّ وجلَّ تُعطي هذا العطاء كلّه، فما بالنا بالعطاء من الله عزَّ وجلَّ خالق الأرض الّتي تعطي؟