أراد أنْ يُرشِّد هذا السّفَه فقال: أنتم في ضلال؛ لأنّكم قلّدتم في الإيمان، والإيمان لا يكون بالتّقليد، وآباؤكم في ضلال؛ لأنّهم اخترعوا هذه المسألة وسَنُّوهَا لكم، ومن العجيب أنْ يُقلِّدوا آباءهم في هذه المسألة بالذّات دون غيرها، وإلَّا فَمن الّذي يظلّ على ما كان عليه أبوه؟ ونحن نرى كُلَّ جيل يأتي بجديد مِمَّا لم يكُنْ معروفاً للجيل السّابق، لذلك يقولون: النّاس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، فلكُلّ زمن وَضْعه وارتقاءاته، ونحن نتحكّم في أولادنا ما داموا صغاراً، فيأكل الولد ويشرب ويلبس حَسْب ما يحبّ الأب والأمّ، فإذا ما شبَّ وكَبر صارتْ له شخصيّته الخاصّة وفِكْره المستقِلّ، فيختار هو مَأكله ومَلْبسه، والكُّلّــيّة الّتي يدخلها، فهؤلاء قلَّدوا آباءهم في هذه المسألة دون غيرها، فلماذا مسألة الإيمان بالذّات يتمسَّكون فيها بالتّقليد؟ ولو أنّ كُلَّ جيل جاء صورة طِبْق الأصل لسابقه لما تغيَّر وَجْه الحياة، ففي هذا دلالة على أنّ لكلّ جيل ذاتيّته المستقلّة وفِكْره الخاصّ.
لقد قلَّد هؤلاء آباءهم في هذه العبادة دون غيرها من الأمور؛ لأنّها عبادة وتديُّن بلا تكليف، وآلهة بلا منهج، لا تُضيِّق عليهم في شيء، ولا تمنعهم شيئاً ممّا أَلِفُوه من الشّهوات، فهو تديُّن بلا تَبِعة، لذلك فالحقّ سبحانه وتعالى يردُّ عليهم في أسلوبين مختلفين، فمرّة يقول جلَّ جلاله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة]، وفي موضع آخر يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة]، ونلحظ أنّ نهاية الآيتين مختلف، فمرّة: ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾[البقرة: من الآية 170]، ومرّة: ﴿لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[المائدة: من الآية 104]، فلماذا؟ قالوا: لأنّ نهاية كلّ آية تناسب صَدْرها، وصَدْر الآيتين مختلف، ففي الأولى قالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾[البقرة: من الآية 170]، فيمكن أن نتّبع هذا أو هذا، دون أنْ يقصروا أنفسهم على شيء واحد، وفي الثّانية قالوا: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [المائدة: من الآية 104]، يعني: يكفينا، ولا نريد زيادة عليه، فَقصَروا أنفسهم على ما وجدوا عليه آباءهم، لذلك قال في نهاية الأولى: ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ [البقرة: من الآية 170]، وفي نهاية الثّانية: ﴿لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [المائدة: من الآية 104]؛ لأنّ العاقل هو الّذي يهتدي إلى الأمر بذاته، أمّا الّذي يعلم فيعلم ما عَقِله هو، وما عَقِله غيره، فدائرة العلم أوسع من دائرة العقل؛ لأنّ العقل يهتدي للشّيء بذاته، أمَّا العلم فيأخذ اهتداء الآخرين.