الآية رقم (4) - قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾: هذا هو النّداء، أو الدّعاء الّذي دعا به زكريّا عليه السلام، ويرد في الدّعاء أن نقول: يا ربّ، أو نقول: يا الله، فكأنّ زكريّا عليه السلام دعا ربّه: يا ربّ، يا مَنْ تُعطي مَنْ آمن بك، وتُعطي مَنْ كفر، يا مَنْ تُعطي مَنْ أطاع، وتُعطي مَنْ عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمَّن أطاعك ويدعو النّاس إلى طاعتك.

وقد قدّم زكريّا عليه السلام حيثيّات هذا المطلب: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾، والوَهَن: هو الضّعف، وقال: ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ﴾؛ لأنّ لكلّ شيء قواماً في الصّلابة والقوّة، فمثلاً الماء له قوام معروف، والدُّهْن له قوام، واللّحم له قوام، والعصب والعظم، وكذلك عناصر تكوين الإنسان كلّها، والعَظْم هو أقوى هذه الأشياء، وعليه يُبنَى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب، فإذا أصابه ضعفٌ ووهنٌ فغيره من باب أَوْلى، فكأنّ نبيّ الله زكريّا عليه السلام يقول:
يا ربّ، ضعف عظمي، ولم يَعُدْ لديَّ إلّا المصدر الأخير لاستبقاء الحياة.

ولـمّا كان العظم شيئاً باطناً مدفوناً تحت الجلد، فهو حيثيّة باطنة، فأراد زكريّا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثيّة أخرى ظاهرة بيّنة، فأتى بأمرٍ واضح:

﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾: فشبّه انتشار الشّيب في رَأْسه باشتعال النّار، فالشّعر الأبيض الّذي يعلوه واضح كالنّار.

والمتأمّل في هذا التّشبيه يجد أنّ النّار تتغذّى على الحطب وتظلّ مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيويّة النّباتيّة الّتي تمدّ النّار، فإذا ما انتهتْ هذه الحيويّة النّباتيّة في الحطب أخذت النّار في التّضاؤل، حتّى تصير جَذْوة لا لَهبَ لها ثمّ تنطفىء.

واشتعال الرّأس بالشّيب أيضاً دليلٌ على ضعف الجسم ووَهَن قُوّته؛ لأنّ الشّعر يكتسب لونه من مادّة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء موجودة في بُصَيْلة الشّعرة، وتُمدّ الشّعرة بهذا اللّون، وضعْفُ الجسم يُضعِف هذه المادّة تدريجيّاً حتّى تختفي، ومن ثمّ تخرج الشّعرة بيضاء، والبياض ليس لوناً، إنّما هو عدم اللّون نتيجة ضَعْف الجسم وضَعْف الغُدَد الّتي تفرز هذا اللّون.

﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾: أي: لم أكُنْ فيما مضى شقيّاً بسبب دعائي لك؛ لأنّي مُستجَابُ الدّعوة عندك، فكما أكرمتني سابقاً بالإجابة فلا تُخلِف عادتك معي هذه المرّة، واجعلني سعيداً بأنْ تُجيبني، خاصّة وأنّ طلبي منك طاعة لك، فأنا لا أريد أنْ أخرج من الدّنيا إلَّا وأنا مطمئنّ على مَنْ يحمل المنهج، ويقوم بهذه المهمّة من بعدي.

«قالَ» ماض فاعله مستتر والجملة مستأنفة

«رَبِّ» منادى مضاف منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم والياء في محل جر بالإضافة

«إِنِّي» إن واسمها

«وَهَنَ الْعَظْمُ» ماض وفاعله والجملة خبر

«مِنِّي» متعلقان بحال محذوفة

«وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ» الواو حرف عطف وماض وفاعله والجملة معطوفة

«شَيْباً» تمييز «وَلَمْ» الواو عاطفة ولم حرف جازم

«أَكُنْ» مضارع ناقص واسمها مستتر والجملة معطوفة

«بِدُعائِكَ» متعلقان بالخبر شقيا

«رَبِّ» منادى مضاف إلى الياء المحذوفة منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم

«شَقِيًّا» خبر أكن

{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} يريد: لم أكن أُخَيَّب إذا دعوتك.