﴿فَلَمَّا جَاءَهَا﴾: أي: جاء موسى إلى النّار.
﴿نُودِيَ﴾: النّداء: طلب إقبال، كما تقول: يا فلان، فيأتيك، فتقول له ما تريد، فالنّداء مثلاً في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى﴾[طه]، نداء، أمّا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾[طه: من الآية 14]، فخطاب وإخبار، لكن هنا: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾، ولم يقُلْ: يا موسى، فليس هنا نداء، قال العلماء: مجرّد الخطاب هنا يُراد به النّداء؛ لأنّه ما دام يخاطبه فكأنّه يناديه، ومثال ذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا﴾ [الأعراف: من الآية 44]، فذكر الخطاب مباشرة دون نداء؛ لأنّ النّداء هنا مُقدَّر معلوم من سياق الكلام، ومنه أيضاً: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأعراف]، ومنه أيضاً: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي﴾ [مريم: من الآية 24]، فجعل الخطاب هو النّداء.
﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾: كلمة بُورِك لا تناسب النّار؛ لأنّ النّار تحرق، وما دام قال: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾، فلا بُدَّ أن مَنْ في النّار خَلْق لا يُحرَق، ولا تؤثّر فيه النّار، فمَنْ هم الّذين لا تؤثّر فيهم النّار؟ الجواب: هم الملائكة، وبناء الفعل ﴿بُورِكَ﴾ للمجهول تعني: أنّ الله عزَّ وجلَّ هو الّذي يبارك، فهذه مسألة لا يقدر عليها إلّا الله تعالى.
﴿مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾: يجوز أن يكون الملائكة، أو: بُورِكت الشّجرة ذاتها؛ لأنّها لا تُحرق، أو النّار؛ لأنّها لا تنطفىء فهي مُباركة، وفي موضع آخر يُوسِّع الله عزَّ وجلَّ دائرة البركة، فيقول تعالى: ﴿فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ [القصص: من الآية 30]، وقد رأى موسى عليه السّلام مشهداً عجيباً، رأى النّار تشتعل في فرع من الشّجرة، فالنّار تزداد، والفرع يزداد خُضْرة، فلا النّار تحرق الخضرة، ولا رطوبة الخضرة ومائيّتها تُطفىء النّار، فمَنْ يقدر على هذه المسألة؟ لذلك قال بعدها:
﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: ففي مثل هذا الموقف إيّاك أنْ تقول: كيف، بل نزِّه الله تعالى عن تصرّفاتك أنت، فهذا عجيب لا يُتصوَّر بالنّسبة إليك، أمّا عند الله عزَّ وجلَّ فأمر يسير، وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصّة إبراهيم عليه السّلام حين نجَّاه ربّه تعالى من النّار، ولم يكُنْ المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم عليه السّلام فقط، فلو أنّ الله عزَّ وجلَّ أراد نجاته فحسب لَمَا أمكنهم منه، أو لأطفأ النّار الّتي أوقدوها بسحابة ممطرة، أسباب كثيرة كانت مُمكِنة لنجاة إبراهيم عليه السّلام، لكنّ الله عزَّ وجلَّ أرادهم أنْ يُمسِكوا به، وأنْ يُلْقوه في النّار بأنفسهم، وهي على حال اشتعالها وتوهّجها، وهم يروْنَ هذا كلّه عَيَاناً، ثمّ لا تؤذيه النّار، ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء]، فالمسألة ليست بين إبراهيم عليه السّلام وقاعدة تحكم الكون، إنّما هي قيّوميّة الخالق تعالى، فما رآه موسى عليه السّلام من النّار الّتي تشتعل في خضرة الشّجرة أمر عجيب عند النّاس، وليس عجيباً عند مَنْ له طلاقة القدرة الّتي تخرق النّواميس.