الآية رقم (19) - فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا

بعد أن سألهم الحقّ تعالى وهو أعلم بهم: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾ [الفرقان: من الآية 17]، وأجابوا: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: من الآية 18]، وقد هَزَّهم هذا السّؤال هِزَّة عنيفة أراد تعالى أنْ يُبرّئهم، فقال: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾: يعني: أنا أعرف أنّكم قلتم الحقّ، لكنّهم كذَّبوكم بما تقولون.

﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا﴾: الصّرف: أن تدفع بذاتك عن ذاتك الشّرّ إنْ تعرّض به أحد لك.

﴿وَلَا نَصْرًا﴾: النّصر: إذا لم تستطع أنت أنْ تدفع عن نفسك، فيأتي مَنْ يدفع عنك.

﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾: وقد يسأل سائل: لماذا يخاطب الله تعالى أولياءه بهذا العنف؟ قالوا: في الواقع ليس هذا العنف نَهْراً لأولياء الله عزَّ وجلَّ، إنّما زجر ولَفْتُ نظرٍ للآخرين، فإذا كان الحقّ تعالى يخاطب أهل طاعته بهذه الشّدّة، فما بالنا بأعدائه، والخارجين على منهجه؟ إنّهم حين يسمعون هذا الخطاب لا بُدَّ أن يقولوا: مع أنّ الله تعالى اصطفاهم وقرّبهم لم يمنعه ذلك أنْ يُوجِّههم إلى الحقّ وينهرهم، ألم يقل تعالى عن حبيبه ونبيّه محمّد ﷺ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقّة]، فالحقّ تعالى يتحدّث عن نبيّه بهذه الطّريقة ليخيف الآخرين ويرهبهم، وليس المقصود النّبيّ ﷺ.

والظّلم: أخْذُ حقِّ الغير، ما دام أنّ الله تعالى حرَّم ذلك، فهذا يعني أنّ الله تعالى يريد أنْ يتمتّع كلّ واحد بثمرة مجهوده؛ لأنّ أمور الحياة لا تستقيم إنْ أخذ الإنسان ثمرةَ غيره، وتعوَّد أن يعيش على دماء الآخرين وعَرقهم؛ لذلك نرى في المجتمع بعض المجرمين والمنحرفين الّذين يعيشون على عَرق الآخرين وهم لا يتعبون، وحين يُؤخَذ الحقّ من صاحبه، ثمّ لا يجد مَنْ يُنصِفه، ويُعيد له حقّه المسلوب يميل إلى الكسل، ويزهَد في العمل وبذْل المجهود، ومعلومٌ أنّ العمل لا تعود ثمرته على صاحبه فحسب، وإنّما على الآخرين حيث يُيسِّر للنّاس مصالحهم، ويُسهِم بحركته في حركة المجتمع، فالله تعالى يريد لصنعته، سواء المؤمن أم الكافر ألّا يظلم نفسه؛ لأنّ الله تعالى كرَّمه وخلق الكون كلّه لخدمته وسخَّره من أجله؛ لذلك يقول له: إنّك لا تستطيع أن تظلمني، إنّما تظلم نفسك، وحين يُضخِّم الحقّ تعالى العقوبة: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾، إنّما ليُنفِّر عباده منها، ويبتعد بهم عن أسبابها، فلا يقعون فيها، لذلك عندما بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذاً إِلَى اليَمَنِ، قَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الـمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»([1])، فلا شيء أصعب من الظّلم.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَاب الـمَظَالِـم وَالغَصْبِ، بَابُ الِاتِّقَاءِ وَالحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الـمَظْلُومِ، الحديث رقم (2448).