﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾: ما دام أنّ الحقّ تعالى توعّدهم وحدَّد لهم موعداً، فلا بُدَّ أن يقع بهم هذا الوعيد في الوقت ذاته، وإلَّا لو مَرَّ دون أن يصيبهم ما يندمون لأجله لانهدم المبدأ من أساسه، ما دام أنّ الله تعالى قالها وسجَّلها على نفسه تعالى في قرآن يحفظه هو، ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾، فلا بُدَّ أن ينزل بهم العذاب في الصّباح، لذلك: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾، لا بالظّلم والعدوان، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾[الحاقّة]، والمعنيان يلتقيان؛ لأنّ الرّيح الصّرصر لها صوت مزمجر كأنّه الصّيحة والصّراخ.
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾: الغثاء: ما يحمله السّيل من قشّ وأوراق وبقايا النّبات، فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الرّيح في إحدى الجوانب، والغثاء هو الزَّبَد الّذي قال الحقّ تعالى عنه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرّعد: من الآية 17]، وفي الحديث الشّريف قال ﷺ لأصحابه: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» -يعني: يدعو بعضهم بعضاً لمحاربتكم كأنّكم غنيمة يريدون اقتسامها- فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»([1])، يعني: شيئاً هيِّناً لا قيمةَ له يذهب سريعاً.
﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: أي: بُعداً لهم عن رحمتنا ونعيمنا الّذي كُنَّا نُمنِّيهم به ونَعِدهم به لو آمنوا، وليس البُعد عن العذاب؛ لأنّ البعد مسافة زمنيّة أو مكانيّة، نقول: هذا بعيد، أي: زمنه أو مكانه، المراد هنا البُعْد عن النّعيم الّذي كان ينتظرهم إنْ آمنوا واستمعوا لهود عليه السلام.
والظّلم: كما قلنا: أخذْ حَقِّ الغير، والشّرك هو الظّلم الأعظم؛ لأنّه ظلم في مسألة القمّة.
(([1] سنن أبي داود: كِتَاب الْمَلَاحِمِ، بَابٌ فِي تَدَاعِي الأُمَمِ عَلَى الإِسْلَامِ، الحديث رقم (4297).