الآية رقم (2) - ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا

﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾: الذّكْر: له معانٍ متعدّدة، فالذّكْر هو الإخبار بشيء ابتداءً، والحديث عن شيء لم يكُنْ لك به سابق معرفة، ومنه التّذكير بشيء عرفته أوّلاً، ونريد أن نُذكِّرك به، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذّاريات].

ويُطلَق الذّكْر على القرآن الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر]، وفي القرآن الكريم أفضل الذّكر، وأصدق الأخبار والأحداث، كما يُطلق الذّكر على كلّ كتاب سابق من عند الله عزَّ وجلَّ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النّحل: من الآية 43]، والذّكْر هو الصِّيت والرِّفْعة والشّرف، كما في قوله جل جلاله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾[الزّخرف: من الآية 44]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء: من الآية 10]؛ أي: فيه صِيتكم وشرفكم، ومن ذلك قولنا: فلان له ذِكْر في قومه؛ أي: له شرف.

ومن الذّكْر ذِكْر الإنسان لربّه جل جلاله بالطّاعة والعبادة، وذكْر الله عزَّ وجلَّ لعبده بالمثوبة والجزاء والرّحمة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة: من الآية 152].

فقوله سبحانه وتعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾؛ أي: هذا يا محمّد خبر زكريّا وقصّته ورحمة الله عزَّ وجلَّ به.

والرّحمة: هي تجليّات الرّاحم على المرحوم بما يُديم له صلاحه لمهمّته.

وكلمة (رَحْمَة) هنا مصدر يؤدّي معنى فعله، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول، كما نقول: آلمني ضَرْب الرّجل ولدَه، فمعنى: ﴿رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾؛ أي: رحم ربُّك عبده زكريّا عليه السلام، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾؛ لأنّها أعلى أنواع الرّحمة، وإن كان هنا يذكر رحمته سبحانه وتعالى بعبده زكريّا عليه السلام، فقد خاطب محمّداً صلّى الله عليه وسلّم بقوله جل جلاله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء]، فرحمة الله سبحانه وتعالى بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ليست رحمة خاصّة به كسيّدنا زكريّا عليه السلام، بل هي رحمة عامّة للعالمين جميعهم، وهذه منزلة كبيرة عالية.

لكن، ما نوع الرّحمة الّتي تجلّى بها الله سبحانه وتعالى على عبده زكريّا عليه السلام؟

إنّها رحمة تتعلّق بطلاقة القدرة في الكون، وطلاقة القدرة في أنّ الله تبارك وتعالى خلق للمسبِّبات أسباباً، ثمّ قال للأسباب: أنت لست فاعلة بذاتك، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتُ ألَّا تفعلي أبطلْتُ عملك، ومن ذلك ما حدث في قصّة خليل الله إبراهيم عليه السلام حين ألقاه الكفّار في النّار، ولم يكن حظّ الله سبحانه وتعالى بإطفاء النّار عن إبراهيم عليه السلام، أو بجَعْل النّار بَرْداً وسلاماً على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم؛ لأنّه كان من الممكن ألَّا يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه، أو يُنزِل مطراً يُطفئ ما أوقدوه من نار، فشاءت إرادة الله عزَّ وجلَّ أنْ تكيد هؤلاء، وأن تُظهِر لهم طلاقة القدرة الإلهيّة فتُمكّنهم من إبراهيم عليه السلام حتّى يلقوه في النّار فعلاً، ثمّ يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه وتعالى للنّار أن تتعطّل فيها خاصّيّة الإحراق: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء].

وكذلك قصّة رحمة الله سبحانه وتعالى لعبده زكريّا عليه السلام تعطينا دليلاً على طلاقة القدرة في مسألة الخَلْق، وليلفتنا إلى أنّ الخالق سبحانه وتعالى جعل للكون أسباباً، فمَنْ يأخذ بالأسباب يصل إلى المسبِّب، ولكن إيّاكم أنْ تُفتَنوا في الأسباب، فالله سبحانه وتعالى قد يأتي بمخلوقٍ دون أب، كسيّدنا عيسى عليه السلام، وقد يأتي بمولود من امرأة عاقر، كسيّدنا إسحاق عليه السلام، وقد يأتي بمخلوق من تراب، كسيّدنا آدم عليه السلام، أمّا طلاقة القدرة في سيّدنا زكريّا عليه السلام فتتجلّى في أنّ الله سبحانه وتعالى استجاب لدعاء زكريّا في أن يرزقه الولد، قال سبحانه وتعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾؛ أي: رَحِمَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى، لكن متى كانت هذه الرّحمة؟

«ذِكْرُ» خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا ذكر

«رَحْمَتِ» مضاف إليه

«رَبِّكَ» مضاف إليه والكاف مضاف إليه

«عَبْدَهُ» مفعول به لرحمة منصوب والهاء مضاف إليه

«زَكَرِيَّا» بدل من عبده أو عطف بيان