الآية رقم (14) - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ

﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾: يقول العلماء: بعد أربعين يوماً تتحوّل هذه النّطفة إلى علقة، وسُـمِّيَتْ كذلك؛ لأنّها تعلَق بجدار الرّحم، وتبدأ في أخذ غذائها منه، والعلماء يسمّونها الزّيجوت، وهي عبارة عن بويضة مُخصَّبة. ومن عجائب قدرة الله تعالى في تكوين الإنسان أنّ المرأة إذا لم تحمل ينزل عليها دم الحيض، فإذا ما حملتْ لا ترى الحيض أبداً، لماذا؟ لأنّ هذا الدّم ينزل حين لم تكُنْ له مهمّة ولا تستفيد به الأمّ، أمَا وقد حدث الحمل فإنّه يتحوّل بقدرة الله عزَّ وجلَّ إلى غذاء لهذا الجنين الجديد.

﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾: وهي قطعة صغيرة من اللّحم على قَدْر ما يُمضَغ، وسبق أن قلنا: إنّ المضغة تنقسم بعد ذلك إلى مُخلَّقة وغير مُخلَّقة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ [الحجّ: من الآية 5]، هذا على وجه التّفصيل، أمّا في الآية الّتي معنا فيُحدِّثنا عن أطوار الخلق عامّة، حتّى لا نظنّ أنّ القرآن الكريم فيه تكرار كما يدَّعِي بعضهم.

المضْغة المخلَّقة هي الّتي تتكّون منها جوارح الإنسان وأعضاؤه، وغير المخلَّقة تظلّ كما قلنا: احتياطيّاً لصيانة ما يتلف من الجسم، كما يحدث مثلاً في الجروح وما شابه ذلك من عطب يصيب الإنسان، فتقوم غير المخلَّقة بدورها الاحتياطيّ.

﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾: لأنّه كان في كلّ هذه الأطوار: النّطفة، ثمّ العلقة، ثمّ المضغة، ثمّ العظام واللّحم ما يزال تابعاً لأمّه متّصلاً بها ويتغذّى منها، وعندما يشاء الله تعالى له أنْ يُولَد ينفصل عن أمّه ليباشر حياته بذاته؛ ولذلك نجد لحظة انفصال الجنين عن أمّه في عمليّة الولادة لحظة صعبة؛ لأنّه سيستقبل حياة ذاتيّة تستلزم أن تعمل أجهزته لأوّل مرّة، وأوّل هذه الأجهزة جهاز التّنفّس، ومن رحمة الله تعالى بالجنين أن ينزل برأسه أوّلاً ليستطيع التّنفّس، ثمّ يخرج باقي جسمه بعد ذلك، فإن حدث العكس ونزل برجليه فربّما يموت؛ لأنّه انفصل عن تبعيّته لأمّه، وليس له قدرة على التّنفّس ليحتفظ بحياته الذّاتيّة الجديدة.

ولـمّا كانت مسألة خَلْق الإنسان فيها كثير من العِبَر والآيات ودلائل القدرة طوال هذه المراحل الّتي يتقلّب فيها الإنسان، ناسب أنْ تختم الآية بقوله تعالى:

﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾: لأنّك حين تقف وتتأمّل قدرة الله عزَّ وجلَّ في خَلْق الإنسان لا تملك إلّا أنْ تقول: سبحان الله، تبارك الله الخالق، لذلك عندما نَزَلَتْ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، قَالَ عُمَرُ: (تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، فَأُنْزِلَتْ: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ([1])؛ لأنّها انفعال طبيعيّ لقدرة الله عزَّ وجلَّ، وعجيب صُنْعه، وبديع خلقه، وهذا نوع من التّجاوب بين السّليقة العربيّة واللّسان العربيّ وبين أسلوب القرآن الكريم الّذي جاء بلسانٍ عربيٍّ مُبين، ويقال: إنّ سيّدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه نطق بها أيضاً، وكذلك نطق بها رجل آخر هو عبد الله بن سعد بن أبي السّرح، مع اختلاف في نتيجة هذا النّطق، المهمّ أنّ مراحل هذا الخلق الّتي أوردها القرآن الكريم ثبت الآن بشكل قاطع صحّتها علميّاً، وهذا من عظمة كتاب الله تعالى، فمن أخبر النّبيّ ﷺ بعلم الجنين هذا؟ سبحان الله هذا هو القرآن الكريم كتابنا العظيم.

وبعد هذه العجائب الّتي رأيناها في مراحل خَلْق الإنسان وخروجه إلى الحياة والإقرار لله تعالى بأنّه أحسن الخالقين، يُذكِّرنا جلَّ جلاله بأنّ هذه الحياة لن تدوم، فيقول تبارك وتعالى:

(([1] المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب العين، سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الحديث رقم (12244).

«ثُمَّ» عاطفة

«خَلَقْنَا» ماض وفاعله والجملة معطوفة

«النُّطْفَةَ» مفعول به أول

«عَلَقَةً» مفعول به ثان

«فَخَلَقْنَا» الفاء عاطفة وماض وفاعله

«الْعَلَقَةَ مُضْغَةً» مفعولان لخلقنا

«فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً» الجملة معطوفة وإعرابها كسابقتها

«فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» إعرابها مثل سابقتها

«ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً» إعرابها كسابقها

«آخَرَ» صفة خلقنا

«فَتَبارَكَ» الفاء استئنافية وماض والجملة مستأنفة

«اللَّهُ» لفظ الجلالة فاعل

«أَحْسَنُ» بدل والجملة مستأنفة

«الْخالِقِينَ» مضاف اليه مجرور بالياء

 

عَلَقَةً واحدة العلق، وهو الدم.

و (المضغة) اللّحمة الصغيرة. سميت بذلك لأنها بقدر ما يمضغ، كما قيل غرفة، بقدر ما يغرف.

ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي خلقناه بنفخ الروح فيه خلقا آخر