ولنا أنْ نسأل: كيف يُحدِّثنا الحقّ تعالى عن مراحل الخَلْق، ثمّ يُحدِّثنا مباشرة عن مراحل الموت والبعث؟ نقول: جعلهما الله تعالى معاً لنستقبل الحياة وفي الذِّهْن والذّاكرة ما ينقض هذه الحياة، حتّى لا نتعالى ولا نغفل عن هذه النّهاية ولتكُنْ على بالنا، فنرتِّب حركة حياتنا على هذا الأساس، ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك]، كأنّه سبحانه ينعي إلينا أنفسنا قبل أنْ يخلق فينا الحياة، وقدَّم الموت على الحياة حتّى نستقبل الحياة، ونستقبل قبلها الموت الّذي ينقضها فلا نغترّ بها، ونعمل لما بعد الموت، وقد خاطب الحقّ تعالى نبيّه ﷺ بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾[الزّمر]، بعضهم يظنّ أنّ ميِّت بالتّشديد يعني مَنْ مات بالفعل، وهذا غير صحيح، فالميِّت بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت، وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة، فكلّنا بهذا المعنى ميِّتون، أمّا الّذي مات بالفعل فهو ميْت بسكون الياء، ومنه قول الشّاعر:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ . | بِـمَيْتٍ إنّما الميْتُ ميِّتُ الأحْياءِ . |
وقول الشّاعر:
هَبْ أنّك قد ملكت الأرضَ طُرّاً أليس غــداً مصيــرك جـــوف قبـــرٍ . |
ودانَ لك البلاد فكان ماذا؟! ويحثــــو التّـرب هــــذا ثــــمّ هـــذا؟! . |
هذه هي الحقيقة:
إنَّ الطّبيبَ لـــهُ علــــمٌ يُـــدِلُّ بِــــه حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه . |
إن كان للمرءِ في الأيّـــامِ تأخيرُ حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ . |
هذه حقيقة الموت:
ومن لم يمت بالسّيفِ مات بغيره . | تعدّدت الأسباب والموت واحد . |
﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: يعني: بعد أطوار الخَلْق الّتي تقدّمت من خَلْق الإنسان الأوّل من الطّين إلى أنْ قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
والمتأمّل لهذه الآية الّتي تُحدِّثنا عن الموت الّذي لا ينكره أحد ولا يشكّ فيه، يجد أنّ الحقّ تعالى أكّدها بأداتين من أدوات التّوكيد: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾، بإنّ واللّام، ومعلوم أنّنا لا نلجأ إلى التّوكيد إلّا حين يواجهنا منكر، فيأتي التّأكيد على قَدْر ما يواجهنا من إنكار، أمّا خالي الذّهن فلا يحتاج إلى توكيد، تقول مثلاً لخالي الذّهن الّذي لا يشكّ في كلامك: يجتهد محمّد، فإنْ شكّ تؤكّد له بالجملة الاسميّة الّتي تفيد ثبوت واستقرار الصّفة: محمّد مجتهد، وتزيد من تأكيد الكلام على قدر الإنكار، فتقول: إنّ محمّداً مجتهد، أو: إنّ محمّداً لمجتهد، أو: والله إنّ محمّداً لمجتهد، هذه درجات للتّأكيد على حسْب حال مَنْ تخاطبه.
إذن: أكّد الكلام عن الموت الّذي لا يشكّ فيه أحد، فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾، ومع ذلك لـمّا تكلَّم عن البعث وهو محلّ الشّكّ والإنكار قال تعالى: