﴿تَتْرَى﴾: أي: متوالين يتبع بعضهم بعضاً؛ لذلك ظنَّها بعضهم فعلاً وهي ليست بفعل، بدليل أنّها جاءت في قراءة أخرى: (تتراً) بالتّنوين، والفعل لا يُنوَّن، فهي اسم، والألف فيها للتّأنيث، مثل: حُبْلى، أضِفْ إلى ذلك أنّ التّاء الأولى تأتي في اللّغة بدلاً من الواو، فإذا أُبدِلَتْ التّاء الأولى في (تتراً) واواً، تقول: (وتراً)، يعني: متتابعين فَرْداً فَرْداً، والوتر هو الفَرْد.
﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾: فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم، وما من رسول أُرسل إلى قوم إلّا كذّبوه، ثمّ يلجأ إلى ربّه: ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون]، ولو لم يُكذَّب الرّسول ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم، وما جاء الرّسول إلّا بعد أن استشرى الباطل، وعَمَّ الطّغيان، فطبيعيّ أنْ يُكذَّب من هؤلاء المنتفعين بالشّرّ المستفيدين من الباطل والّذين يدافعون عنه بقواهم كلّها، وكأنّ تكذيبهم للرّسل دليل على صواب مجيء الرّسل، وإلّا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة.
﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا﴾: يعني: يمضي واحد ويأتي غيره من الرّسل، أو نهلك المكذِّبين ثمّ يأتي بعدهم آخرون، فيكذِّبون فنهلكهم أيضاً.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾: أحاديث: إمّا جَمْعاً لحديث، كما نقول: أحاديث رسول الله ﷺ، أو جمع: أحدوثة: وهي المقولة الّتي يتشدَّق بها الجميع، وتلوكُها الألسنة، فقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ كأنّه لم يبْقَ منهم أثر إلّا أنْ نتكلّم عنهم، ونذكرهم كتاريخ يُحْكَى، وفي موضعٍ آخر قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: من الآية 19]، ثمّ يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم:
﴿فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾: يعني: بُعْداً لهم عن رحمة الله عزَّ وجلَّ، وبُعْداً لهم عن نعيم الله تعالى الّذي كان ينتظرهم، ولو أنّهم آمنوا لنالوه.