تفسير سورة مريم

ترتيب هذه السّورة المباركة التّاسعة عشرة في المصحف الشّريف، وهي سورة مكّيّة، وعدد آياتها (98) آية، وهي السّورة الثّالثة والأربعون في ترتيب النّزول، نزلت بعد سورة (فاطر) وقبل سورة (طه)، وتقع سورة (مريم) كلّها في الجزء السّادس عشر في القرآن الكريم.
تتحدّث هذه السّورة عن الولادة العجيبة للسّيّدة مريم عليها السّلام، وهناك ثلاث سور أساسيّة ذُكِر فيها السّيّد المسيح عليه السّلام وآل عمران أسرة والدة السّيّد المسيح، وهي: سورة (آل عمران)، وسورة (المائدة)، وهذه السّورة الّتي نحن بصددها؛ سورة (مريم).
والمولى سبحانه وتعالى حينما تحدّث عن السّيّد المسيح عليه السلام فإنّه تحدّث أوّلاً عن هذه الأسرة وعن جدّة السّيّد المسيح، وذلك في سورة (آل عمران)، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران]، وجاء أيضاً في سورة (آل عمران): ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: الآيتين 35-36، ومن الآية 37]، البدء في سورة (آل عمران) أنّ جدّة السيّد المسيح نذرت بأنّها عندما تلد سيكون هذا المولود لخدمة البيت المقدّس ولعبادة الله سبحانه وتعالى، وعندما وضعت ما في بطنها وجدته أنثى واعتقدت أنّ مَن يقوم بخدمة البيت المقدّس يجب أن يكون ذكراً، واستعاذت بالله سبحانه وتعالى من أن يقترب الشّيطان من هذه المولودة المباركة الّتي سمّتها مريم، فنشأت السّيّدة مريم وترعرعت بكلّ الإيمان والرّحمانيّة والعناية الإلهيّة، وكفلها زكريّا عليه السلام وهو أحد أنبياء بني إسرائيل، فكان يقوم برعايتها وتربيتها وإطعامها، وهي تعيش في ظلّ المحراب؛ المكان المقدّس الّذي لا يكون إلّا للسّجود، فكان كلّما دخل عليها زكريّا عليه السلام المحراب وجد عندها رزقاً، فيسألها: أنّى لكِ هذا؟ فتقول: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: من الآية 37]، فالسّيّدة مريم علّمت النّبيّ زكريّا عليه السلام أنّ الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يخلق دون أسباب، وأنّ المسبّب سبحانه وتعالى بيده الكون، وبيده مقاليد كلّ شيء، فإذا قال لأمرٍ: ﴿كُن﴾ ، فيكون، فعندما علّمته ذلك هنالك دعا ربّه جل جلاله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾[آل عمران: من الآية 38]، فبشّره الله سبحانه وتعالى بيحيى عليه السلام، فإذا كان سيّدنا زكريّا عليه السلام زوج خالة السّيّدة مريم، فسيّدنا يحيى هو ابن خالة السّيّد المسيح عليه السّلام، فقدّم الله سبحانه وتعالى بهذه المقدّمات عن النّبيّ زكريّا عليه السلام وعن يحيى عليه السلام الّذي عاصر النّبيّ عيسى عليه السلام، وهنا ننتقل إلى هذه السّورة.