لسورة التّوبة أسماءٌ متعدّدةٌ، وهي من أواخر السّور نزولاً، وهي الوحيدة من بين مئةٍ وأربعَ عشرةَ سورةً من سور القرآن الكريم الّتي لا تبدأ بـ (بسم الله الرّحمن الرّحيم)، ومن المعلوم أنّ بسم الله الرّحمن الرّحيم هي أوّل آيةٍ في سورة (الفاتحة)، وسور القرآن الكريم كلّها لا بدّ أن تبدأها بالبسملة؛ وذلك لأنّ النّبيّ : قال: «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم فهو أقطع»([1]) أي ناقص، هذا أمرٌ، أمّا الأمر الآخر فأنت تقرأ القرآن الكريم بسرّ الله سبحانه وتعالى فيه، تقرؤه باسم الله جلّ وعلا، فعندما نزل جبريل عليه السلام فأوّل كلمةٍ قالها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ]العلق[، إذاً (بسم الله الرّحمن الرّحيم) موجودةٌ في سور القرآن الكريم كلّها باستثناء هذه السّورة، والسّؤال الآن: لماذا لم تبدأ سورة (التّوبة) بـ (بسم الله الرّحمن الرّحيم)؟ قال العلماء: إنّ سورة التّوبة هي براءةٌ من عهود المشركين؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى تبرّأ هو والرّسول من عقود المشركين وعهودهم الّتي نكثوها؛ لذلك بدأت مباشرةً ببراءةٍ بلا بسملة، فالله سبحانه وتعالى منع عنهم هذا الأمان، وبسم الله الرّحمن الرّحيم هي أمانٌ، والله أعلم بعدم ورود بسم الله الرّحمن الرّحيم.
ولهذه السّورة عدّة أسماء؛ فتسمّى:
– التّوبة: لنزول توبةٍ من الله سبحانه وتعالى على الثّلاثة الّذين تخلّفوا عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الرّبيع، وهلال ابن أميّة، حيث ندموا على تخلّفهم عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
– براءة: لافتتاحها بالبراءة من عهود المشركين.
– الفاضحة: لأنّها تفضح أعمال المنافقين والمشركين.
– المقشقشة: القشقشة معناها التّبرئة، وتعني المبرّأة من النّفاق.
– المنقّرة: أي الكاشفة؛ لأنّها كشفت عمّا في قلوب المشركين والمنافقين.
– الحافرة: لأنّها تحفر في قلوب المنافقين.
– المبعثرة: لأنّها بعثرت ما في قلوب المنافقين.
– المثيرة: لأنّها أثارت عورات المنافقين.
– المشرّدة: الطّاردة للمنافقين المفرّقة لجمعهم.
– المنكّلة: يعني المعاقبة للمنافقين.
– المدمدمة: أي المهلكة.
– العذاب: لتكرّر ذكر العذاب فيها.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: مازال ينزل في هذه السّورة ومنهم ومنهم ومنهم حتّى خفنا ألّا يدع أحداً.
وكأنّ هذه السّورة تعقّبت حركة النّفاق في المجتمع، فرصدت المنافقين والمشركين واليهود ونقضهم العهود مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في معركة بدرٍ وأُحدٍ والخندق، بعد ذلك وقّع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلح الحديبية مع المشركين وقد رآه خيراً للمسلمين، وأثبتت الأيّام صحّة ذلك مع أنّهم كانوا من القوّة ما يستطيعون به أن يدخلوا مكّة عنوةً، عندما خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العمرة الّتي سمّيت عمرة الحديبية ووصل لمشارف مكّة عند الحديبية، وجاء سهيل بن عمرو وحاور النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكتب بنود الصّلح، ودخل في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكثير من القبائل الّتي آمنت ودخل في عهد قريش الكثير من القبائل، فدخلت خزاعة مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبنو بكر مع قريش، ثمّ اعتدت بنو بكر بمساعدة قريش على خزاعة ليلاً، فجاء الشّاعر عمرو بن سالم الخزاعيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
اللّهمّ إنّي ناشد محمّدا كنّا والدا وكنت ولداً فانصر رسول الله نصراً عتدا فيهم رسول الله قد تجرّدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا فهم أذلّ وأقلّ عددا هم بيّتونا بالوتير هجّداً . |
حلف أبينا وأبيه الأتلدا ثُـمَّت أسلمنا ولم ننزع يدا وادعوا عباد الله يأتوا مددا إن سيم خسفا وجهه تربّدا إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا وزعموا أن لست أدعو أحدا قد جعلوا لي بكداء مرصدا فقتلونا ركّعاً وسجّدا . |
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت يا عمرو بن سالم»، فما برح حتّى مرّت عنانة في السّماء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذه السّحابة لتستهلّ بنصر بني كعب»، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمي على قريش خبره حتّى يبغتهم في بلادهم، فجاءت تلك السّورة العظيمة لتنقض وتقطع العهود، وهي مقدّمةٌ لحجّة الوداع، فبعد صلح الحديبية كان المسلمون يقومون بالحجّ وفيه المسلمون والمشركون، فعندما قطعت قريش الميثاق ونقضته واعتدوا على خزاعة وجرى ما جرى، عندها كان الصّدّيق رضي الله عنه قد خرج بوفد الحجّ إلى مكّة ضمن الميثاق فنزلت سورة براءة بنقض صلح الحديبية فأرسل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيّدنا الإمام عليّ كرّم الله وجهه بسورة براءة ليتلوها علناً على النّاس في موسم الحجّ ويقطع هذه العهود مع قريش.