﴿بَلْ﴾: للإضراب، ما دام أنّهم فعلوا اللّهو واللّعب، وخانوا نِعَم الله سبحانه وتعالى في السّماء والأرض فليعلموا أنّ هذا الحال لن يستمرّ، فالحقّ سبحانه وتعالى يُملي للباطل ويُوسّع له حتّى يزحف ويمتدّ، حتّى يأخذه أخْذ عزيز مقتدر، ويقذف عليه بالحقّ.
﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ﴾: القذف: الرَّمْي بشدّة مثل القذائف المدمّرة.
﴿فَيَدْمَغُهُ﴾: يقال: دمغه؛ أي: أصاب دماغه، والدّماغ أشرف أعضاء الإنسان ففيه المخّ، وهو ميزان المرء، فإنْ كان المخّ سليماً أمكن إصلاح أيِّ عطل آخر، أمّا إنْ تعطّل المخّ فلا أملَ في النّجاة بعد ذلك؛ لذلك جعل الحقّ تبارك وتعالى عَظْمة الدّماغ أقوى عظام الجسم لتحفظ هذا العضو المهمّ، والأطباء لا يحكمون على شخصٍ بالموت مثلاً إذا توقّف قلبه؛ لأنّ القلب يُجرى له تدليك معيّن فيعود إلى عمله، كذلك التّنفّس، أمّا إنْ توقّف المخّ فقد مات صاحبه، فهو الخليّة الأولى الّتي تحتفظ بآخر مظاهر الحياة في الجسم؛ لذلك يقولون: موت إكلينيكيّ، وللمخّ تصل خلاصة الغذاء، وهو المخدوم الأعلى بين الأعضاء، فالجسم يأخذ من الغذاء ما يكفي طاقته الاحتراقيّة في العمل، وما زاد على طاقته يُختزَن على شكل دهون يتغذّى عليها، حين لا يوجد الطّعام، فإذا ما انتهى الدُّهْن تغذَّى على اللّحم، ثمّ على العَظْمِ؛ لِيُوفِّر للمخّ ما يحتاجه، فهو السّيّد في الجسم، ومن بعده تتغذّى باقي الأعضاء، فكلّ شيء في الجسم يخدم المخّ؛ لأنّه أَعْلَى الأعضاء، أمّا النّبات مثلاً فيخدم أسفله؛ أي: الجذر، فإذا جَفَّ الماء في التّربة، ولم يجد النّبات الغذاءَ الكافي يتغذّى على أعلاه فيذبل أوّلاً، ثمّ تتساقط الأوراق، ثمّ تجفّ الفروع الصّغيرة، ثمّ الجذع، ثمّ الجذر، ومن ذلك قول سيّدنا زكريّا عليه السّلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾[مريم: من الآية 4]، فالعَظْم آخر مخزَن للغذاء في الجسم، فَوهَنُ العظم دليل على أنّ المسألة أوشكتْ على النّهاية، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾: أي: يصيبه في أهمّ الأعضاء.
﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾: زاهق: يعني خارج بعنف، ففي النّهاية انتصر الحقّ على الباطل، وأزهق الحقّ الباطل.
﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾: يعني: أيّها الإنسان المغتَرّ بعناده في الباطل، وقد وقف بعقله وقلبه ليصادم الحقّ، سنقذف بالحقّ على باطلك، فنصيب دماغه فيزهق، عندها ستقول: يا ويلتي، كما سبق أنْ قالوا: ﴿يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، حينما يباشرون العذاب.
وقد يقول قائل: لماذا يُملِي الله سبحانه وتعالى للباطل حتّى يتمرَّد ويعلو، ثمّ بعد ذلك يعلو عليه الحقّ فيدمغه؟ نقول: الحكمة من هذا أنْ تتمّ الابتلاءات، والنّاس لا تعشق الحقّ إلّا إذا رأتْ بشاعة الباطل، ولا تعرف منزلة العدل إلّا حينما ترى بشاعة الظّلم، وبضدّها تتميّز الأشياء، كما قال الشّاعر:
فالوجهُ مثل الصُّبحِ مُبْيَضُّ ضِدّانِ لـمّا استجمِعَا حَسُنَا . | والشَّــــــعــرُ مثل اللّيــــلِ مُسْــــــوَدُّ والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْـــــنَهُ الضِّدُّ . |
فلا نعرف جمال الحقّ إلّا بقُبْح الباطل، ولا حلاوة الإيمان إلّا بمرارة الكفر.