من أسمائه تعالى: (الوارث)، قال جلَّ جلاله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾[الأنبياء: من الآية 89]، فماذا يرث الحقّ تعالى؟ الجواب: لقد خلق الله تعالى الخَلْق، وأعطى للنّاس أسباب ملكيّته، ووزَّع هذه الملكيّة بين عباده: هذا يملك كذا، وهذا يملك كذا من فضل الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة عاد الملْك كلّه إلى صاحبه، وكان الحقّ تعالى هو الوارث الوحيد يوم يقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[غافر: من الآية 16]، والله تعالى خير الوارثين؛ لأنّ الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به، لكنّ الحقّ تعالى يرث ما تركه للغير ليعود خَيْره عليهم ويزيدهم من فضله، ويعطيهم أضعافاً مضاعفة، وإذا كان يعطيهم في الدّنيا بأسباب، فإنّه في الآخرة يرث هذه الأسباب، ويعطيهم من فضله بلا أسباب، حيث تعيش في الجنّة مستريحاً لا تعبَ ولا نصبَ ولا سَعْيَ، وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أنْ تُحرِّك ساكناً، فالبشر يرثون ليأخذوا، أمّا الحقّ تعالى فيرث ليعطي؛ لذلك فهو خير الوارثين.
فأيُّ شيء يرثه المؤمنون الّذين توفّرت فيهم هذه الصّفات؟ يجيب الحقّ سبحانه:
﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾: الحقّ تعالى ورَّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة، والفردوس أعلى الجنّة، فورث الحقّ لينفع عباده ويُصعِّد النّفع لهم، ففي الدّنيا كنّا ننتفع بالأسباب، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب، لكن مِمَّنْ يرثون الفردوس؟ قال العلماء: الحقّ تعالى عندما خلق الخَلْق، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الطّاعة والمعصية رتَّبَ على ذلك أموراً، فجعل الجنّة على فرض أنّ الخَلْق مؤمنون كلّهم، بحيث لو دخلوا الجنّة جميعاً ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام، وكذلك جعل النّار على فرض أنّ الخَلْق كافرون كلّهم، فلو كفر النّاس جميعاً لكان لكلٍّ منهم مكانه في النّار، وعليه فحين يدخل أهل الجنّةِ الجنّةَ، يتركون أماكنهم في النّار، وحين يدخل أهل النّارِ النّارَ، يتركون أماكنهم في الجنّة، فيرث أهل النّار الأماكن الشّاغرة فيها، ويرث أهل الجنّة الأماكن الشّاغرة فيها.
والفردوس أعلى مكان في الجنّة، لذلك كان النّبيّ ﷺ يقول: «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ -أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ»([1])، ويُروى أنّ الحقّ تعالى لـمّا خلق الفردوس، قال لها: تكلّمي، فلمّا تكلّمت الفردوس قالت: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: لأنّ نعيم الجنّة باقٍ ودائم لا ينقطع.
(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الجهاد والسّير، بَابُ دَرَجَاتِ الـمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الحديث رقم (2790).