﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾: يجب أن ننتبه أنّه لم يرد ذكر الإيمان في كتاب الله سبحانه وتعالى إلّا مقترناً بالعمل الصّالح، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾] العصر[، فلا بدّ للإيمان من ترجمانٍ، وقد بيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «الإيمان بِضعٌ وسبعون، أو بِضعٌ وستّون شُعبةً، فأفضلها قول: لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق»([1])، حتّى إماطة الأذى عن الطّريق كشوكٍ تميطه عن طريق النّاس هو شعبةٌ من شُعب الإيمان؛ أي أنّ للإيمان وظائف، فإذا آمنت ولم تقم بوظائف الإيمان كان إيمانك شكليّاً: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ ﴾ ] الحجرات: من الآية 14[، فقد آمنوا بالشّكل فقط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل»([2]).
﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ﴾: الآية هنا تتحدّث عن الآخرة، بدليل أنّه قال: ﴿ جْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾، فهل هناك هدايةٌ في الآخرة؟ الجواب: يُحتمل أن تكون هذه الهداية تتعلق بالدّنيا، ويُحتمل أن تكون في الآخرة، فكيف نفسّرها؟ عندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ يَهْدِيهِمْ ﴾ الهداية هي دلالةٌ على الخير، ففي الدّنيا من أراد أن يكون طريقه الإيمان بالله تعالى فلا بدّ أن يعينه الله سبحانه وتعالى على ذلك، لذلك قال جل جلاله: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾] البقرة[،فهذا جزءٌ من الهداية أن يشرح الله سبحانه وتعالى صدرك للعبادة، وبما أنّ الهداية دلالةٌ على الخير، فإنّ هذه الهداية تنقسم إلى نوعين في الحياة الدّنيا: الأولى: هداية دلالةٍ، فالقرآن الكريم هو هدايةٌ للبشر بغضّ النّظر عن انتماءاتهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾] الإسراء: من الآية 9[، فإن أخذت بهداية الدّلالة جاءتك هداية المعونة من الله سبحانه وتعالى ، وهي النّوع الثّاني من الهداية، وهي المقصودة في هذه الآية بقوله سبحانه وتعالى : ﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ﴾؛ أي نتيجة سلوكهم طريق الإيمان أعانهم الله عز وجل وزادهم هدىً، كما قال سبحانه وتعالى في موضعٍ آخر: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾] محمّد[، هذا التّفسير إن كان المقصود بها هداية الدّنيا، أمّا إن كانت في الآخرة فنقول: الآخرة ليس فيها تكليفٌ، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾ ]الحديد: من الآية 12[، فهداية الآخرة هي النّور الّذي يسعى بين أيديهم، ويهديهم إلى طريق الجنّة نتيجة الإيمان في الدّنيا ورجحان كفّة حسناتهم.
﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾: المعلوم أنّه حيث توجد الأنهار توجد الأشجار والخضرة، وهذا تعبيرٌ عن نعيم الآخرة، ولكن هذا التّعبير هو تقريبٌ لما في مخيّلة الإنسان في الدّنيا، وليس تعبيراً عن حقيقة ما هو موجودٌ في الدّنيا، بدليل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ ]الرّعد: من الآية 35[؛ أي الوصف الّذي يرد للجنّة هو مَثَلٌ يُقرِّب للأذهان كيفيّتها، فأيّ شيءٍ لا يُعطى اسماً إلّا بعد وجوده وحضور معناه إلى الذّهن، فإذا لم يكن هذا الشّيء موجوداً فلا نستطيع أن نقدّره، فما يتعلّق بالغيب نأخذه كما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الجنّة كما وصفها النّبيّ ﷺ: «فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ»([3]).
(([1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، الحديث رقم (35).
([2]) مصنّف ابن أبي شيبة: كتاب الإيمان والرّؤيا، باب منه، الحديث رقم (30351).
([3]) صحيح مسلم: كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، الحديث رقم (2825).