بعد أن تكلَّم الله سبحانه وتعالى عن الكفّار وأهل النّار ومَنْ يعبدون الله سبحانه وتعالى على حَرْف، كان لا بُدَّ أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لأنّ النّفس عندها استعداد للمقارنة والتّأمّل في أسباب دخول النّار، وفي أسباب دخول الجنّة، وهذا أَجْدى في إيقاع الحجّة، ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾[التّوبة: من الآية 82]، فذِكْر النّعمة وحدها دون أنْ تقابلها النِّقْمة لا تُؤتِي الأثر المطلوب، لكن حينما تقابل النّعمة بالنّقمة، وَسَلْب الضّرّ بإيجاب النّفع فإنَّ كلاهما يُظهر الآخر، والضّدّ يُظهر حسنه الضّدّ؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: من الآية 185]، فإنْ آمنتَ لا تُزَحْزح عن النّار فقط -مع أنّ هذه في حَدِّ ذاتها نعمة- لكن تُزَحْزح عن النّار وتدخل الجنّة.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: الإيمان: عمل قلبيّ ومواجيد تطمئنّ بها النّفس، لكنّ الإيمان له مطلوب: فأنت آمنتَ بالله عزَّ وجلّ، واطمأنَّ قلبك إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرّازق واجب الوجود.. إلخ، فما مطلوب هذا الإيمان؟ مطلوب الإيمان أنْ تستمع لأوامره؛ لأنّه حكيم، وتثق في قدرته؛ لأنّه قادر، وتخاف من بطشه؛ لأنّه جبّار، ولا تيأس من بَسْطه؛ لأنّه باسط، ولا تأمن قبضه؛ لأنّه قابض، لقد آمنتَ بهذه القضايا كلّها، فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيّات هذا الأمر، وأنت واثق أنّ ربك عزَّ وجلّ لم يأمرك ولم يَنْهَكَ من فراغ، إنّما من خلال صفات الكمال فيه سبحانه وتعالى، أو صفات الجلال والجبروت، فاستحضر في أعمالك كُلِّها، وفي كُلِّ ما تأتي أو تدع هذه الصّفات، لذلك جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصّالح: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ﴾، وفي سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر]، فالتّواصي بالحقّ والصّبر على الشّدائد من الاستجابة لداعي الإيمان وثمرة من ثماره؛ لأنّ المؤمن سيتعرَّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله، وسيواجه سُخْرية واستهزاءً، وربما تعرَّض لألوان العذاب، فعليه أنْ يتمسَّك بالحقّ ويتواصى به مع أخيه، وعليه أن يصبر، وأنْ يتواصى بالصّبر مع إخوانه ومجتمعه؛ ذلك لأنّ الإنسان قد تعرض له فترات ضَعف وخَوَر، فعلى القويّ في وقت الفتنة أنْ ينصحَ الضّعيف، وربّما تبدَّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى، فَمنْ أوصيْتَه اليوم بالصّبر ربّما يوصيك غداً، وهكذا يُثمِر في المجتمع الإيمانيّ التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر، فتواصَوْا؛ لأنّكم ستتعرّضون لِهزَّات ليست هزَّات شاملة جامعة، إنّما هزَّات يتعرّض لها بعضكم دون الآخر، فإنْ ضعُفْتَ وجدتَ من مجتمعك مَنْ يُواسيك: اصبر، تجلَّد، احتسب، وإيّاك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحقّ، أو تخرج عن الصّبر، وهذه هي عناصر النّجاة الّتي ينبغي للمؤمنين التّمسّك بها: إيمان، وعمل صالح، وتواصٍ بالحقّ، وتواصٍ بالصّبر.
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾: الجنّات: هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتع: الزّرع، والخضرة، والنّضارة، والزّهور، والرّائحة الطّــيّبة، وهذه كلّها بنات الماء؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، ومعنى: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: أنّ الماء ذاتيٌّ فيها، لا يأتيها من مكان آخر قد ينقطع عنها.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾: لأنّه سبحانه وتعالى لا يُعْجِزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس]، ولو تأمّلنا هذه الآية لوجدنا الشّيء الّذي يريده الله سبحانه وتعالى، ويأمر بكونه موجوداً في الحقيقة، بدليل أنّ الله سبحانه وتعالى يخاطبه: ﴿يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: من الآية 82]، فهو كائن فعلاً، وموجود حقيقةً، والأمر هنا إنّما هو لإظهاره في عالم المشاهدة.