﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أي: يجعلون هواهم في حدّ، وأوامر الله سبحانه وتعالى في حدّ، ﴿وَرَسُولَهُ﴾ دلّت على أنّ الرّسول ﷺ له تشريع خاصّ به؛ لأنّه مفوّض من الله سبحانه وتعالى في أن يشرّع، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: من الآية 7]، فالأمر قد يكون من الله سبحانه وتعالى ومن رسول الله ﷺ، وقد يكون من الله جل جلاله وحده، أو من رسول الله ﷺ وحده؛ لأنّ الحكم يكون من الله سبحانه وتعالى إجمالاً ومن رسول الله ﷺ تفصيلاً، لذلك جاءت الآيات تفـصّل هذا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[المائدة: من الآية 92]، وقال جل جلاله: ﴿وأَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ﴾ [آل عمران: من الآية 132]، وقال عز وجلَّ: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النّور: من الآية 56]، وبهذه الآيات نردّ على هؤلاء الّذين ينادون بالأخذ بالقرآن الكريم فقط، ويرفضون الأخذ بسُنّة رسول الله ﷺ، وقد أخبر رسول الله ﷺ عن هؤلاء فقال: «ألَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ»([1])، وهذا من معجزاته ﷺ، وللرّدّ على هؤلاء نقول لهم: بالله عليكم قولوا لنا: كيف نصلّي العصر أو المغرب؟ ومن أين عرفتم أنّ العصر أربع ركعات وأنّ المغرب ثلاث؟ وهل هذا في القرآن الكريم؟ هل بيّن القرآن الكريم مناسك الحجّ أو مقادير الزكاة أو أحكام الصّلاة أو فرائض وشروط الصّلاة أو عدد ركعات الصّلاة؟ والنّبيّ ﷺ يقول: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»([2])، وقال ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»([3])، يعني: أنّ رسول الله ﷺ تميّز بين الرّسل بأن فوّضه الله عز وجلَّ في أن يشرّع لأمّته، فالرّسل قبل النّبيّ محمّد ﷺ لم يكن لهم إلّا أن يبلّغوا عن الله سبحانه وتعالى الأحكام، أمّا رسول الله ﷺ فمبلّغ ومشرّع، فأطيعوا الله عز وجلَّ في إجمال الحكم، وأطيعوا رسول الله ﷺ في تفصيل الحكم، ولو لم يكن الأمر كذلك ما قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النّساء: من الآية 80].
﴿كُبِتُوا﴾: الكبت هنا بمعنى الذّلّة والمهانة، أو الصّدمة الشّديدة الّتي تُسكت المرء فلا ينطق لهول ما يرى من المصيبة، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: ذُهِل، فالّذي يتعرّض لصدمة شديدة يخرس لسانه، فلا ينطق ولا يستطيع أن ينفّس عن نفسه أو يخفّف عنها.
﴿كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: وأوّل من كُبت إنّما كُبت المكذّبون السّابقون من قوم عاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون وغيرهم.
﴿وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾: آيات واضحات يصدّقها العقل، وتقبلها الفطرة السّليمة.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾: أي: الّذين يكذّبون بهذه الآيات ولا يؤمنون بها مع وضوحها ومسايرتها للفطرة السّليمة، لهم عذاب مهين يهينهم ويخزيهم؛ ذلك لأنّ قضيّة الإيمان بالله سبحانه وتعالى واضحة لا يملك أحد ردّها، حتّى هم لم ينكروها.
([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النّبيّ ﷺ، الحديث رقم (2664).
([2]) سنن الدّار قطني: كتاب الصّلاة، باب في ذِكْر الأمر بالأذان والإمامة وأحَقِّهما، الحديث رقم (1069).
([3]) السّنن الكبرى للبيهقيّ: جماع أبواب دخول مكّة، باب الإيضاع في وادي مُـحَسِّر، الحديث رقم (9524).