الآية رقم (4) - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ

الصّفّ انسجام مجموعة بحيث لا يشذّ فيها فرد عن فرد، فالصّفّ لا يعني مجرّد الجمع والحشد، إنّما هو الجمع في انسجام وانضباط، وقد روت لنا كتب السّيرة أنّ النّبيّ ﷺ كان في استعراض الجنود في المعركة يسوّي الصّفوف فلمّا رأى رجلاً يُدعى سواد قد شذّ عن الصّفّ وخرج عنه نخزه ﷺ بعصا صغيرة في بطنه ليستقيم في مكانه من الصّفّ، وكان سواد محبّاً لرسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: «استقد»، فاعتنقه سواد وقبّل بطنه، فقال ﷺ: «ما حملك على هذا يا سواد؟»، قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير([1])، والصّفّ دليل الانتظام والانضباط والاستعداد لتلقّي الأوامر، وهكذا تصفّ الملائكة في انتظار الأوامر من الله سبحانه وتعالى ليقوم كلّ منهم بمهمّته ودوره: ﴿صَفًّا صَفًّا﴾[الفجر: من الآية 22]، وكذلك ورد في القرآن الكريم كلمة صفّ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾[طه: من الآية 64]، فهذا الاصطفاف والتّسوية أوّل ما يكون في الجهاد في سبيل الله عز وجلَّ، ويقول سبحانه وتعالى عن الملائكة عموماً: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾[الصّافّات]، يعني: نقف في انضباط منتظرين الأوامر، والصّفّ هنا يدلّ على الانسجام، وهكذا يجب أن تكون المعركة، وفي الصّلاة أيضاً هناك اصطفاف، سووا صفوفكم، تراصّوا، وفي الحديث عن البراء بن عازب قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا، وَيَقُولُ: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ»([2])، وقال ﷺ: «رُصُّوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ وَالْأَقْدَامَ بِالْأَقْدَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِي الصَّلَاةِ مَا يُحِبُّ فِي الْقِتَالِ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰن مَّرۡصُوص﴾»([3])، فأيّ معركة يجب أن يكون فيها تراصّ، واصطفاف، والتزام، وانضباط في صفّ القتال، وطاعة الأوامر، وهذا ما رأينا عكسه يوم أُحُد، عندما خالف الرّماة أمر النّبيّ ﷺ.

﴿كَأَنَّهُم بُنۡيَٰن مَّرۡصُوص﴾: أي: البنيان المشدود، الصّفّ الواحد ليس فقط للمصطفّين، وإنّما الكتلة بكاملها تكون كأنّها بنيان مرصوص بعضه ببعض.

([1]) الرّحيق المختوم: ج1، ص155.

([2]) سنن أبي داود: تفريع أبواب الصّفوف، باب تسوية الصّفوف، الحديث رقم (664).

([3]) الاستذكار: كتاب الجمعة، باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، الحديث رقم (202).

«إِنَّ اللَّهَ» إن واسمها

«يُحِبُّ» مضارع مرفوع فاعله مستتر

«الَّذِينَ» اسم الموصول مفعوله والجملة خبر إن والجملة الاسمية استئنافية لا محل لها

«يُقاتِلُونَ» مضارع وفاعله والجملة صلة

«فِي سَبِيلِهِ» متعلقان بالفعل

«صَفًّا» حال

«كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ» كأن واسمها وخبرها

«مَرْصُوصٌ» صفة والجملة حال.

{صَفًّا} … صَافِّينَ صَفًّا.

{مَّرْصُوصٌ} … مُتَرَاصٌّ مُحْكَمٌ لَا فُرْجَةَ فِيهِ، وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ العَدُوُّ.