بعد أن حذّرنا ربّنا سبحانه وتعالى من الغرور في الحياة الدّنيا يُذكّرنا أنّ بعد هذه الحياة حياة أخرى، وقيامة وساعة:
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ : والسّاعة لا تعني القيامة فحسب، إنّما لكلّ منّا ساعته؛ لأنّه مَنْ مات فقد قامت قيامته، لماذا؟ لأنّه انقطع عمله، ولا يمكنه تدارك ما فاته من الإيمان أو العمل الصّالح، فكأنّ قيامته قامت بموته.
وهذه الآية جمعتْ خمسة أمور استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ، فهل هذه هي كلّ الغيبيّات في الكون؟ نقول: في الكون غيبيّات كثيرة لا نعرفها، فلا بُدَّ أنّ هذه الخمس هي المسؤول عنها، وجاء الجواب على قدر السّؤال، بالله لو هَبَّتْ الرّيح، وحملتْ معها بعض الرّمال، أنعرف أين ذهبت هذه الذّرّات؟ وفي أيّ ناحية، أنعرف ورق الشّجر كم تساقط منها؟ هذه كلّها غيبيّات لا يعلمها أيضاً إلّا الله عزَّ وجلَّ، أمّا نحن فلا نعلم حتّى عدد النِّعَم الّتي أنعم الله سبحانه وتعالى بها علينا: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: من الآية 34]، وقد ورد في أسباب نزول مفاتح الغيب هذه، أنّ رجلاً من محارب، اسمه الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله ﷺ وقال: يا رسول الله: أريد أنْ أعرف متى السّاعة، وقد بذرْت بذري، وأنتظر المطر فمتى ينزل؟ وامرأتي حامل، وأريد أن تلد ذكراً، وقد أعددت لليوم عُدَّته، فماذا أُعِدّ لغد؟ وقد عرفت موقع حياتي، فكيف أعرف موقع مماتي؟ هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ، فأخفى الله سبحانه وتعالى القيامة وأخفى الموت؛ لنظلّ على ذِكْر له نتوقّعه في كلّ لحظة، فنعمل له، ولنتوقّع دائماً أنّنا سنلقى الله عزَّ وجلَّ، فنعدّ للأمر عُدّته.
﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ : وهذا أيضاً، ومع تقدُّم العلوم حاول بعض النّاس التّنبّؤ به بناء على حسابات دقيقة لسرعة الرّياح ودرجة الحرارة.. إلخ، وربّما صَحَّتْ حساباتهم، لكن فاتهم أنّ لله عزَّ وجلَّ أقداراً في الكون تحدث ولا تدخل في حساباتهم، فكثيراً ما نُفَاجأ بتغيُّر درجة الحرارة أو اتّجاه الرّيح، فتنقلب كلّ حساباتنا، لذلك من عجائب الخَلْق أنّنا كلّما اقتربنا من الشّمس وهي مصدر الحرارة تقِلُّ درجة الحرارة، وكلّما ابتعدنا عنها زادت درجة الحرارة، فالمسألة ليست روتينيّة، إنّما هي قدرة لله سبحانه وتعالى، والله عزَّ وجلَّ يجمع لنا الأسباب ليثبت لنا طلاقة قدرته الّتي تقول للشّيء: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: من الآية 117].
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ : هذه أيضاً من مفاتح الغيب، وستظلّ كذلك مهما تقدّمت العلوم، ومهما ادَّعى الخَلْق أنّهم يعلمون ما في الأرحام، والّذي أحدث إشكالاً في هذه المسألة الآن الأجهزة الحديثة الّتي استطاعوا بها رؤية الجنين، وتحديد نوعه، فهذه الخطوة العلميّة أحدثتْ بلبلة عند بعض النّاس، فتوهّموا أنّ الأطبّاء يعلمون ما في الأرحام، وبناءً عليه ظنّوا أنّ هذه المسألة لم تَعُدْ من مفاتح الغيب الّتي استأثر الله عزَّ وجلَّ بها، ونقول: أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الأرحام بعد أن تكوَّن ووضحتْ معالمه، واكتملتْ خِلْقته، أمّا الخالق عزَّ وجلَّ فيعلم ما في الأرحام قبل أنْ تحمل الأمّ به، قال ﷺ: «وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكاً، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَمَا الرِّزْقُ، فَمَا الأَجَلُ، فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ في بَطْنِ أُمِّهِ»([1])، ألم يُبشّر الله سبحانه وتعالى نبيّه زكريّا عليه السّلام بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمّه؟ وحتّى نحن عندما علمنا بواسطة الأجهزة إن كان الجنين ذكراً أم أنثى، هذا الغيب ما علمناه بذواتنا، إنّما بما علّمنا الله عزَّ وجلَّ، فالطّبيب الّذي يُخبرنا بنوع الجنين لا يعلم الغيب، إنّما مُعلَّم غيب.
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ : الإنسان يعمل، إمّا لدنياه، وإمّا لأُخْراه، فالنّفس إمّا تعمل الخير أو الشّرّ، الحسنة أو السّيّئة، والإنسان في حياته عُرضَة للتّغيُّر، لذلك يقال في الأثر: “يا ابن آدم، لا تسألني عن رزق غدٍ، كما لم أطالبك بعمل غد”، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذّاريات].
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ : وهذه المسألة حدث فيها إشكال؛ لأنّ رسول الله ﷺ أخبر الأنصار أنّه سيموت بالمدينة حينما وزّع الغنائم على النّاس جميعاً ما عدا الأنصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئاً؛ لأنّ رسول الله ﷺ حرمهم، لكنّ سيّدنا رسول الله ﷺ جمعهم وتلطَّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل، فقال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلـمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُم اللَّهُ؟», قَالُوا: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: «أَلَـمْ تَكُونُوا ضُلَّالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟», قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟», قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «وَعَالَةً فَأَغْنَاكُم اللَّهُ بِي؟»، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ -كُلَّمَا قَالَ شَيْئاً قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ- ثُمَّ قَالَ: «أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟», قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟، قَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ؟»، فَقَالُوا: بَلْ لِلَّهِ الْمَنُّ عَلَيْنَا وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ قُرَيْشاً حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ فَإِنّي أُعْطِي رِجَالاً لِأَنَّهُمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَلِنِسَاءِ الْأَنْصَارِ وَلِمَوَالِي الْأَنْصَارِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، الْأَنْصَارُ شِعَارِي وَالنَّاسُ دِثَارِي»([2])، وقال في مناسبة أخرى: «الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»([3])، فنُبِّئَ رسول الله ﷺ أنّه سيموت بالمدينة، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ، نقول: الأرض منها عامّ ومنها خاصّ، فأرض المدينة شيء عامّ، نعم سيموت بالمدينة، لكن في أيّ بقعة منها، وفي أيّ حجرة من حجرات زوجاته، فإذا علمتَ الأرض العامّة، فإنّ الأرضَ الخاصّة ما زالت مجهولة لا يعلمها أحد، أضف إلى ذلك أنّ هذه خصوصيّة لرسول الله ﷺ فقط، ويُرْوى أنّ أبا جعفر المنصور الخليفة العبّاسيّ كان يحبّ الحياة ويحرص عليها، ويخاف الموت، وكان يستشير في ذلك المنجّمين والعرّافين، فأراد الله سبحانه وتعالى أنْ يقطع عليه هذه المسألة، فأراه الله سبحانه وتعالى في المنام أنّ يداً تخرج من البحر وتمتدّ إليه، وهي مُفرَّجة الأصابع هكذا، فأمر بإحضار مَنْ يُعبّر له هذه الرّؤيا، فكان المتفائل منهم، أو الّذي يبغي نفاقه يقول له: هي خمس سنوات، وآخرون قالوا: خمسة أشهر، أو خمسة أيّام أو دقائق، إلى أن انتهى الأمر عند أبي حنيفة رضي الله عنه فقال له: إنّما يريد الله سبحانه وتعالى أن يقول لك: هي خمسة لا يعلمها إلّا الله عزَّ وجلَّ، وهي: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ، وما دامت هذه المسائل كلّها مجهولة لا يعلمها أحد، فمن المناسب أن يكون ختام الآية:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ : فالحقّ سبحانه وتعالى يريد أنْ يُريح خَلْقه من الفكر في هذه المسائل، وكلّ ما يجب أن نعلمه أنّ المقادير تجري بأمر الله عزَّ وجلَّ لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، وأنّها إلى أجل مسمّى، وأنّ العلم بها لا يُقدّم ولا يُؤخّر، بالله ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ لا شيء أكثر من أنّك ستعيش نَكِداً حزيناً طوال الوقت لا تجد للحياة لذّة، لذلك أخفى الله سبحانه وتعالى عنّا هذه المسألة لنُقبِل على الله عزَّ وجلَّ بثقتنا في مجريات قدر الله جلَّ جلاله فينا.
([1]) صحيح البخاريّ: كتابُ القدَرِ، بابٌ في القدَرِ، الحديث رقم (6595).
([2]) الجامع الصّحيح للسّنن والمسانيد: مَناقِبُ الصَّحابَةِ رضي الله عنهم، مناقب الأنصار.
([3]) السّنن الكبرى للنّسائيّ: سورةُ الإسراءِ، قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ [الإسراء: من الآية 81]، الحديث رقم (11234).