﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾: أي: على حَدِّ زعمهم، وعلى حَدِّ قولهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزّمر: من الآية 3]، وإلّا فلا عبادة لهذه الآلهة، حيث لا أمر عندهم ولا نهي ولا منهج، فعبادتهم باطلة، وهم يعبدون الأوثان من دون الله تعالى، فإنْ ضُيِّق عليهم الخِنَاق، قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزّمر: من الآية 3]، فهم بذلك مشركون.
﴿أَوْثَانًا﴾: الوثن: ما نُصِب للتّقديس من حجر، أيّاً كان نوعه: حجر جيري، أو مرمر، أو كان من معدن: ذهب أو فضّة أو نحاس.. إلخ أو من خشب، وقد كان بعضهم يصنعه من العجوة، فإنْ جاع أكله، وقد حَكَى هذا على سبيل التّعجُّب سيّدنا عمر رضي الله عنه، لذلك يخاطبهم القرآن الكريم: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾[الصّافّات]، وكلّما تقدَّم العالم تلاشتْ منه هذه الظّاهرة؛ لأنّها مسألة لم تَعُدْ تناسب العقل بأيّة حال.
﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾: أي: توجدون، والإيجاد يكون من عدم، فهم يُوجدون من عدم، لكن أيُوجدون صِدْقاً؟ أم يُوجدون كذباً؟ إنّهم يُوجدون ﴿إِفْكًا﴾، والإِفك: تعمُّد الكذب الّذي يقلب الحقائق، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [النّجم]؛ أي: القرى الّتي كفأها الله تعالى على نفسها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾: في موضع آخر بيَّن لهم الله تعالى أنّهم يعبدون آلهة لا تضرّ ولا تنفع، وهنا يذكر مسألة مهمّة هي استبقاء الحياة للإنسان بالقُوت الّذي نسمّيه الرّزق، فهذه الآلهة الّتي تعبدونها من دون الله تعالى لا تملك لكم رزقاً، ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الأرض لـمتُّم من الجوع، فكان عليكم أنْ تتأمّلوا: من أين تأتي مقوّمات حياتكم، ومَنْ صاحب الفضل فيها، فتتوجَّهون إليه بالعبادة والطّاعة، والرّزق هو الشُّغل الشّاغل عند النّاس، ففي أوّل الأمر كلّنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش، وعندما تتحسَّن الأمور نرغب في التّخزين للمستقبل، فالموظّف مثلاً يدّخر لشهر، والزّارع يدّخر للعام كلّه، ومن أعاجيب هذه المسألة أنّنا نجد الإنسان يشترك مع الفأر والنّمل، وهم الوحيدون بين مخلوقات الله تعالى الّتي تدّخر للمستقبل، أمّا بقيّة الحيوانات فتأخذ حاجتها من الطّعام فقط، وتترك الباقي دون أنْ تهتمَّ بهذه المسألة، أو تُشغَل برزق غد أبداً، فلا يأكلون أكثر من طاقتهم، ولا يدّخرون شيئاً لغدهم، لذلك يُذكِّر الله تعالى عباده بمسألة الرّزق لأهمّـيّتها في حياتهم، ومن عجيب أمر الرّزق أنّه أعرَفُ بمكانك وعنوانك، منك بمكانه وعنوانه، فإنْ قُسِم لك الرّزق جاءك يطرق عليك الباب، وإنْ حُرِمتَ منه أعياك طلبه، ومن أوضح الأمثلة على أنّ الرّزق مقسوم مقدَّر من الله تعالى لكلّ منّا أنّ المرأة حين تحمل يمتنع عنها الحيض الّذي كان يأتيها بشكل دوريّ قبل الحمل، فأين ذهب هذا الدّم؟ هذا الدّم هو رزق الجنين في بطن أمّه، لا يأخذه ولا يستفيد به غيره حتّى الأمّ، فإنْ قُدِّر الجنين تحوّل هذا الدّم إلى غذاء له خاصّة، فإنْ لم يُقدَّر للأمّ أنْ تحمل نزل منها هذا الدّم على صورة كريهة، لا بُدّ من التّخلّص منه؛ لأنّه ضارّ بالأمّ إنْ بقي؛ لأنّه ليس رزقها، بل رزق ولدها في أحشائها، ولو لم يكُنْ هذا الدّم رِزْقاً للجنين لكانت الأمّ تضعف كلّما تكرَّرت لها عمليّة نزول الدّم بهذه الصّورة الدّوريّة، فلكلّ منّا رِزْق لا يأخذه غيره، لذلك يقول أحد الصّالحين: “عجبتُ لابن آدم يسعى فيما ضُمِن له ويترك ما طُلِب منه”، فالرّزق مضمون من الله تعالى، لذلك يمتنُّ به على عباده وينفيه عن هذه الآلهة الباطلة: ﴿لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾.
﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: فإنْ لم تعبدوه لأنّه يرزقكم ويطعمكم، فاعبدوه لأنّ مرجعكم إليه ووقوفكم بين يديه.
﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾: لأنّ ربّكم تعالى يريد أن يزيدكم، فجعل الشّكر على النّعمة مفتاحاً لهذه الزّيادة، فقال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 7]، فربُّنا ينتظر منّا كلمة الشّكر، فبمجرّد أن نستقبل النّعمة بقولنا: الحمد لله، فقد وجبت لنا الزّيادة.