الآية رقم (104) - أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾: الهمزة استفهاميّة، لم: حرف نفي، والاستفهام مع النّفي يدلّ على الإثبات؛ أي يجب أن يعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى  يقبل التّوبة عن عباده، وأنّه سبحانه وتعالى  هو التّواب الرّحيم.

﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾: هل ﴿هُوَ﴾ هنا زائدةٌ؟ الجواب: لا يوجد في كتاب الله سبحانه وتعالى حرفٌ واحدٌ زائدٌ، فكلّ شيءٍ في القرآن الكريم له ميزانٌ دقيقٌ وعظيمٌ.

لماذا أكّد وقال: ﴿هُوَ﴾ ؟ الله سبحانه وتعالى  قال حكايةً عن سيّدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ ]الشّعراء[، فهل قال بعدها: (والّذي هو يميتني)؟ الجواب: لا، إنّما قال سبحانه وتعالى :﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ ]الشّعراء[، ما السّبب؟ كلّ أمرٍ يعتقد النّاس أنّهم يشتركون فيه مع الله جل جلاله فإنّه جلّ وعلا يؤكّد فيه على وحدانيّته مثال: عندما تقول:﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ أنت تعتقد أنّك خُلِقت من الأمّ والأب، فيجب التّأكيد على أنّ الخالق هو الله سبحانه وتعالى  وليس الأمّ والأب،﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ تعتقد أنّ الرّزق والعمل والمال هي مصدر طعامك فيجب التّأكيد على أنّ الله سبحانه وتعالى  هو الرزّاق الكريم،﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ تعتقد أنّ الدّواء أو الطّبيب هو الّذي يشفي:

إنَّ الطّبيبَ لهُ علمٌ يُدِلُّ بِه
حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه                     .
إن كان للمرءِ في الأيّامِ تأخيرُ
حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ
.

أمّا عند قوله: ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ لم يأت بـ: ﴿هُوَ﴾؛ لأنّه لم يقل أحدٌ: إنّه يُميت، والقتل يختلف عن الموت، فهو هدمٌ للبنية، وقد سبق تفسيره في سورة (آل عمران) عند قوله سبحانه وتعالى :﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ]آل عمران: من الآية 144[، فالموت شيءٌ والقتل شيءٌ آخر، فلا يُميت ولا يحيي إلّا الله سبحانه وتعالى ؛ لذلك ليس هناك من حاجةٍ لـ: ﴿هُوَ﴾ .

والله سبحانه وتعالى  هو الّذي يقبل التّوبة، وليس رسول الله ﷺ.

﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾: لماذا قال: ﴿عَنْ﴾ وليس: (من عباده)؟ هذه دقّة القرآن الكريم وأسراره، قال سبحانه وتعالى :﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ ]النّساء[،  والفارق بين كلام الله سبحانه وتعالى  وكلام النّاس كالفارق بين فضل الله عز وجل وبين النّاس، كما قال :: «فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه»([1])، فمعنى: ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾؛ أي أنّه يتجاوز عن عقوبتهم ويعفو عنهم، فهو من باب تضمين فعلٍ دلالةَ فعلٍ آخر.

﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾: الله سبحانه وتعالى  هو الآخذ للصّدقات والمثيب عليها، لذلك قال النّبيّ ﷺ : «ثَلاثَةٌ أقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا،…»([2])؛ لأنّك عندما تتعامل مع خلق الله فإنّك تُعامل الله عز وجل.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾: يبيّن الله سبحانه وتعالى  بأنّه توّابٌ، وتوّابٌ تتناسب مع الإنسان الّذي يُخطئ ويعود، وممّا روته السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت: جاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إنّي رجل مِقرافٌ، قال: «فتُب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله، إنّي أتوب ثمّ أعود، قال: «فكلّما أذنبت فتب»، قال: يا رسول الله، إذنْ تكثرْ ذنوبي، قال: «عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث»([3]).

([1]) سنن الدّارميّ: كتاب فضائل القرآن، باب فضل كلام الله على سائر الكلام، الحديث رقم (3357).

([2]) مسند البزّار: المجلّد الأوّل، مسند عبد الرّحمن بن عوف، الحديث رقم (1032).

(([3] مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج 10، الحديث رقم (17531)، ومِقراف: صيغة مبالغة من قارف: يُقال: قارف الخطيئة: أي خالطها.

«أَلَمْ»: الهمزة استفهامية وحرف جازم.

«يَعْلَمُوا»: مضارع مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعله والجملة مستأنفة.

«أَنَّ اللَّهَ»: أن واسمها والمصدر المؤول من أن واسمها وخبرها سد مسد مفعولي يعلموا.

«هُوَ»: مبتدأ والجملة خبر أن.

«يَقْبَلُ»: مضارع فاعله مستتر.

«التَّوْبَةَ»: مفعول به والجملة خبر هو.

«عَنْ عِبادِهِ»: متعلقان بيقبل.

«وَيَأْخُذُ»: الواو عاطفة ومضارع فاعله مستتر والجملة معطوفة.

«الصَّدَقاتِ»: مفعول به منصوب بالكسرة جمع مؤنث سالم.

«وَأَنَّ اللَّهَ»: إن واسمها والجملة معطوفة.

«هُوَ»: مبتدأ.

«التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»: خبران للمبتدأ والجملة خبر أن.

وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ: يقبلها.

التَّوَّابُ: صيغة مبالغة، أي يقبل توبة عباده الرَّحِيمُ بهم، صيغة مبالغة أيضا.