الحديث هنا عن موالاة المنافقين في المدينة المنوّرة لليهود، يقول سبحانه وتعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ﴾: يا محمّد.
﴿إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾: أي: المنافقين تولّوا الّذين غضب الله عليهم، وهم اليهود، يعني اتّخذوهم أولياء يناصرونهم، ويتآمرون معهم.
﴿مَّا هُم مِّنكُمْ﴾: أي: ما هم من المؤمنين.
﴿وَلا مِنْهُمْ﴾: ولا من اليهود، قال سبحانه وتعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾[النّور: من الآية 63].
وسبق أن بيّنا أنّ النّفاق لم يظهر في مكّة؛ لأنّ المسلمين كانوا في حالة ضعف، والنّفاق يظهر في حالة القوّة، فظهر في المدينة، وهذا يدلّ على قوّة الدّين، فقد قويت شوكته وأصبح له مكانة بين النّاس، وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين في مدينة رسول الله ﷺ؛ ذلك لأنّهم كانوا يعدّون له التّاج لينصِّبوه ملكاً عليهم، فلمّا جاء رسول الله ﷺ المدينة قضي على منزلة عبد الله بن أبيّ بن سلول، وانصرف النّاس عنه، فظلّت هذه في نفس ابن أبيّ فأظهر الإسلام وأبطن الكفر والنّفاق، أمّا ابنه عبد الله فقد أسلم وحسن إسلامه وأخلص فيه، وكان في أشدّ الحزن لنفاق والده، ويُروى أنّ عبد الله جلس إلى النّبيّ ﷺ فشرب رسول الله ﷺ، فقال له: بالله يا رسول الله، أما أبقيت فضلة من شرابك أسقها أبي لعلّ الله يطهّر بها قلبه، فأفضل له فأتاه بها؟ فقال له عبد الله (أبوه): ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النّبيّ ﷺ جئتك بها تشربها لعلّ الله يطهّر قلبك بها، فقال له أبوه: فهلّا جئتني ببول أمّك فإنّه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النّبيّ ﷺ وقال: يا رسول الله، بالله أما أذنت لي في قتل أبي، فقال النّبيّ ﷺ: «بل ترفق به وتُحسن إليه»([1])، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، وكان بعد ذلك يكرم ابن أُبيّ لأجل ابنه عبد الله.
فظهرت قوّة الإسلام وقوّة العقيدة في نفوس أتباع محمّد ﷺ في المدينة بشكل لم يشهد التّاريخ مثله، ولك أن تتأمّل قول عبد الله لرسول الله ﷺ: دعني أقتله، هذا من قوّة الإيمان، فالإيمان يفعل المعجزات، وقد آخى النّبيّ ﷺ بين المهاجرين والأنصار، وقال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة﴾ [الحشر: من الآية 9]، فموالاة المنافقين لليهود شكّلت جبهة ضدّ المسلمين، فكان المنافق يخالط المسلمين وربّما يصلّي في الصّفّ الأوّل، ثمّ يخرج فينقل أخبارهم إلى اليهود، ومن هنا تأتي خطورة النّفاق والمنافقين، فهم أشدّ خطراً من الكفّار ومن اليهود؛ لأنّهم يُظهرون الموالاة ويُبطنون العداوة، والمنافق عداوته مستترة، لذلك جعلهم الله سبحانه وتعالى في الدّرك الأسفل من النّار.
﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: يعلمون أنّهم كاذبون، ويعلمون أنّ الله سبحانه وتعالى يطّلع على سرائرهم، ويُطلِع رسوله ﷺ على ما يدور في نفوسهم وخواطرهم، ومع ذلك كانوا يتآمرون، والعجيب أنّهم يحلفون على الكذب في الدّنيا ويكذبون على بعض، وأيضاً يحلفون على الكذب في الآخرة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾[الأنعام: من الآية 23]، وقال: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة]، يريدون أن يكذبوا على الله عز وجلَّ في الآخرة، وهنا يخبرنا سبحانه وتعالى بما ينتظرهم من الجزاء
([1]) السّيرة الحلبيّة: ج2، باب ذكر مغازيه ﷺ، غزوة بني المصطلق.