﴿أَلَمْ تَرَ﴾: يعني: ألم تعلم؟ فالرّؤية إمّا أن تكون رؤيا بصريّة أو رؤيا علميّة، وهنا الأمر يتعلّق بالسّجود، فهل السُّجود الّذي ذُكِر في الآية سجود على حقيقته كما نعلمه في السّجود من أنفسنا، أم لكلّ جنس من أجناس الكون سجود يناسبه؟ وسبق أن تحدّثنا عن أجناس الكون وهي أربعة: أدناها الجماد، ثمّ يليه النّبات، حيث يزيد عليه خاصّيّة النّمو وخاصّيّة الحركة، ثمّ يليه الحيوان الّذي يزيد خاصّيّة الإحساس، ثمّ يليه الإنسان ويزيد عليه خاصّيّة الفكر والاختيار بين البدائل بالعقل، وكلّ جنس من هذه الأجناس يخدم ما هو أعلى منه، حيث تنتهي هذه الدّائرة بأنّ كلّ مَا في كون الله سبحانه وتعالى مُسخَّر لخدمة الإنسان، وفي الخبر: «يا ابن آدم خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُكَ من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عَمَّنْ أنت له»([1])، فكان على الإنسان أن يفكّر في هذه الميْزة الّتي منحه ربّه إيّاها، ويعلم أنّ كلّ شيء في الوجود مهما صَغُر فله مهمّة يؤدّيها، ودَوْر يقوم به، فأَوْلَى بهذا الإنسان وهو سيّد هذا الكون أن يكون له مهمّة، وأن يكون له دور في الحياة، فهو ليس بأقلَّ من هذه المخلوقات الّتي سخَّرها الله عزَّ وجلّ له، وهذه المخلوقات كلّها أعطاها الله عزَّ وجلّ هذه المهامّ من أجل أن تخدم هذا الإنسان، وأعطي هذا الإنسان هذه النّعم والعطاءات كلّها، فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبِّهك إلى هذه المهمّة كان عليك أن تشكره، وكان عليك أن تؤمن به، والرّسول من الله سبحانه وتعالى لا يصحّ لأحد أن ينصرف عنه وعن ما أمر به وما نهى عنه؛ لأنّه يُوضِّح لنا مسائل كثيرة، وكان على العقل البشريّ أن يفكّر في هذه الأمور كلّها، الشّمس والقمر وغيرهما، هذه الأشياء في خدمتها لك لم تتأبَّ عليك، ولم تتخلّف يوماً عن خدمتك، يقول بعضهم عن سجود هذه المخلوقات: إنّه سجود دلالة، وليس سجوداً على حقيقته، لكنّ هذا القول يعارضه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾[النّور: من الآية 41]، فلكلّ مخلوق مهما صَغُر أو كبر، صلاة وتسبيح وسجود يتناسب وطبيعته، والإنسان يسجد بجبهته على الأرض، وهذا السّجود هو السّجود الصّحيح الّذي علّمنا إيّاه النّبيّ عليه السّلام، لكن إذا كان الإنسان مريضاً فهو يسجد وهو على الفراش، أو جالس على مقعد، وربّما يشير بعينه، أو أصبعه للدّلالة على السّجود، فإن لم يستطع أجرى السّجود على خاطره، فإذا كان السّجود يختلف بهذه الصّورة في الجنس الواحد حَسْب حالته وقدرته وطاقته، فحتماً هو يختلف بين تلك الأجناس المتعدّدة، وإذا كان هذا حال السّجود في الإنسان، فهل ننتظر مثلاً أن نرى سجود الشّمس أو سجود القمر؟! ما دام الله سبحانه وتعالى قال: إنّها تسجد، فلا بُدَّ أن نؤمن بسجودها، لكن على هيئة لا يعلمها إلّا خالقها عزَّ وجلّ، ومن معاني السّجود: الخضوع والطّاعة، فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجوداً على الحقيقة، فليعدّ السّجود هنا للخضوع والانقياد والطّاعة، كما تقول على إنسان متكبّر: جاء ساجداً، يعني: خاضعاً ذليلاً، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[فصّلت]، فلنا أن نفهم السّجود على أيِّ هذه المعاني نحبّ، فلن تخرج عن مراده سبحانه وتعالى، ومن رحمة الله عزَّ وجلّ أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لإرادته، لا تنحلّ عنها أبداً ولا تتخلّف، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[الأحزاب]، والحقّ سبحانه وتعالى حين قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾، معلوم أنّ مَنْ في السّموات هم الملائكة ولسنْا منهم، لكن نحن من أهل الأرض ويشملنا حكم السّجود وندخل في مدلوله، فلماذا قال بعدها: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾؟ هذا القول يُبيّن أنّ لنا قهريّةً وتسخيراً وسجوداً كباقي أجناس الكون، ولنا أيضاً منطقة اختيار، فالكافر الّذي يتعوَّد التّمرُّد على خالقه: يأمره بالإيمان فيكفر، ويأمره بالطّاعة فيعصي، فلماذا لا يتمرّد على طول الخطّ؟ لماذا لا يرفض المرض إنْ أمرضه الله سبحانه وتعالى؟ ولماذا لا يرفض الموت إنْ حَلَّ به؟ فالإنسان مُؤتمِر بأمر الله عزَّ وجلّ مثل الشّجر والحجر والحيوان والسّموات والأرض، ومنطقة الاختيار هي الّتي نشأ عنها هذا الانقسام: كثير آمن، وكثير حَقَّ عليه العذاب، لكن لماذا لم يجعل الله سبحانه وتعالى الخَلْق جميعاً مُسخَّرين؟ قالوا: لأنّ صفة التّسخير وعدم الخروج عن مرادات الله عزَّ وجلّ تثبت لله سبحانه وتعالى صفة القدرة على الكلّ، إنّما لا تُثبت لله جلَّ جلاله المحبوبيّة، المحبوبيّة لا تكون إلّا مع الاختيار: أن تكون حُرَّاً مختاراً في أنْ تُؤمنَ أو تكفر فتختار الإيمان، وأنْ تكون حُرّاً وقادراً على المعصية، لكنّك تطيع، وضربنا لذلك مثلاً -ولله المثل الأعلى-: هَبْ أنّ للإنسان خادمين، تربط أحدهما إليك في سلسلة مثلاً، وتترك الآخر حُرّاً، فإن ناديتَ عليهما أجاباك، فأيّهما يكون أطْوعَ لك: المقهور المجبر، أم الحرّ الطّليق؟ إذن: التّسخير والقهر يُثبت القدرة، والاختيار يُثبت المحبّة، والخلاف الّذي حدث من النّاس، فكثير منهم آمن، وكثير منهم حَقَّ عليه العذاب، من أين هذا الاختلاف يا ربّ؟ من الاختيار الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى في الإنسان، فمَنْ شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فكأنّ كفر الكافر واختياره؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى سَخَّره للاختيار، فهو حتّى في اختياره مُسخَّر.
﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾: أي: باختياراتهم، وبعضهم يقول: كان المفروض أن يقول في مقابلها: وقليل، لكنّ هؤلاء كثير، وهؤلاء كثير أيضاً.
﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾: حقَّ: يعني ثبتَ، فهذا أمر لا بُدَّ منه، حتّى لا يستوي المؤمن والكافر: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾[القلم]، فلا بُدَّ أنْ يعاقب هؤلاء، والحقّ يقتضي ذلك.
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾: لأنّ أحقيَّة العذاب من مُساوٍ لك قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه، أو يأتي شافع يشفع له، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُيَئِّسُ هؤلاء من النّجاة من عذابه، فلن يمنعهم أحد، فمَنْ أراد الله سبحانه وتعالى إهانته فلن يُكرمه أحد، لا بنُصْرته ولا بالشّفاعة له، فالمعنى: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾؛ أي: بالعذاب الّذي حَقَّ عليه.
﴿فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾: يعني: يكرمه ويُخلِّصه من هذا العذاب، كذلك لا يوجد مَنْ يُعِزّه؛ لأنّ عِزَّته لا تكون إلّا قَهْراً عن الله عزَّ وجلّ، وهذا مُحَال؛ لذلك نقول: إنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُجير على خَلْقه ولا يُجَار عليه، يعني: لا أحد يقول لله سبحانه وتعالى: هذا في جواري؛ لذلك ذيَّلَ الآية بقوله جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾.
([1]) فيض القدير شرح الجامع الصغير: ج 5، حرف اللّام، الحديث رقم (7603).