بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى بعض الآيات الكونيّة البعيدة عنّا أراد جلَّ جلاله أنْ يعطينا نموذجاً آخر للآيات الّتي بَيْن أيدينا في الأرض، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ .
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ : يعني: ألم تعلم.
﴿أَنَّ الْفُلْكَ﴾ : أي: السّفن.
وربّما أنّ سيّدنا رسول الله ﷺ لم يَرَ هذه السّفن في البحار، ولم تكن قد ظهرت السّفن العملاقة الّتي نراها اليوم كالأعلام، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ [الرّحمن]، ومتى وُجِدت البوارج العالية الّتي تشبه الجبال والمكوَّنة من عدّة أدوار؟ لم توجد إلّا حديثاً، فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن الكريم، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزّخرف]، ومَنْ يبحث في القرآن الكريم يجد فيه الكثير من هذه الآيات الّتي تثبت صِدْق القرآن الكريم وصِدْق رسول الله ﷺ في البلاغ عن الله عزَّ وجلَّ، وذكرنا قصّة المرأة الّتي أسلمت عندما قرأت التّاريخ الإسلاميّ، وقرأت في سيرة رسول الله ﷺ أنّ المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه، وفجأة صرف رسول الله ﷺ هؤلاء الحرس من حوله، وقال لهم: لقد أنزل الله عليَّ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: من الآية 67]، فوقفت المرأة عند هذه الآية، وقالت: والله لو أنّ هذا الرّجل كان يخدع النّاس جميعاً ما خدع نفسه في حياته.
وقلنا في معنى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أنّها بمعنى: ألم تعلم؛ لأنّ إعلام الله سبحانه وتعالى لك أوثق من رؤية عينيك.
﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ : الجري: حركة تودّع فيها مكاناً إلى مكان آخر، هذا التّوديع إمّا أن تمشي الهُـوَيْنى أو تجري، لكن ما هي نعمة الله سبحانه وتعالى في جريها؟ كانت أوّل سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدُّسُر، وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر واحد يزيح من الماء بحجم وزن السّفينة، فإذا ما وضعت عليها ثقلاً فإنّها تغطس بمقدار هذا الثّقل، حتّى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السّفينة وحمولتها فإنّها تغرق، وهذه الفكرة هي الّتي تُستخدم في الغوّاصات، فبالوزن يتمّ التّحكّم في حركة الغوّاصة تحت الماء، والآن نرى السّفن العملاقة الّتي تُصنَع من الحديد، والعجيب أنّ هذا الحديد الصّلب يحمله الماء السّائل اللّيّن ويجري به، ويتمكّن ربّان السّفينة من التّحكّم في حركتها باستخدام بعض الآلات البسيطة وبتوجيه الشّراع بطريقة معيّنة فتسير السّفينة حسب ما أراد، حتّى لو كان اتّجاهها عكس اتّجاه الرّيح، ويسمّون هذه الحركة: (تسفيح)، لذلك يقول سبحانه وتعالى عن حركة السّفن: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ [الشّورى: من الآية 33]، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يُبيّن لنا أنّ أقلّ الأشياء كثافة بقوّة الحقّ له يحمل أكثر الأشياء كثافة، ولننظر إلى جرّارات النّقل الثّقيل، هذه الجرّارات العملاقة الّتي تحمل عدّة أطنان من الحديد مثلاً، على أيّ شيء تسير وتتحرّك؟ إنّها تسير وتتحرّك على الهواء المضغوط في عجلاتها، والّذي يأخذ قوّته من هذا الضّغط، بحيث إذا زدنا في ضغط هذه العجلات تنفجر.
﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ﴾ : أي: من عجائبه في كونه خاصّة في البحار، ففي الماضي كنّا لا نرى من المخلوقات في الأعماق إلّا السّمك الّذي يصطاده الصّيّادون، أمّا الآن ومع تطوّر علوم البحار وطرق التّصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر ممّا نراه على اليابسة.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ : قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ توحي بأنّ آيات الله سبحانه وتعالى في كونه كثيرة، لكنّ على الإنسان أنْ يبذل جهداً في البحث عنها واكتشافها، وعليه أن يكون صبَّاراً على مشقّة البحث والغوص تحت الماء، فإذا ما رأينا ما في أعماق البحار من عجائب مخلوقات الله عزَّ وجلَّ فقد وجب علينا الشّكر، والشّكر لا يكون إلّا عن نعمة جدَّت لم تكُنْ موجودة من قبل، فالله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نستقبل آياته في الكون استقبالَ بحث وتأمّل ونظر، لا استقبال غفلة وإعراض، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف].
وتقديم ﴿صَبَّارٍ﴾ على ﴿شَكُورٍ﴾ دليل على أنّ الصّبر على مشقّات العمل والبحث والاستنباط والاكتشاف يُؤتي نعمة كبيرة تدعو الإنسان إلى شكرها.