﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ : هذه آيات كونيّة واضحة مرئيّة للجميع: للمؤمن والكافر، للطّائع والعاصي، فالحقّ سبحانه وتعالى يوزّع لنا الوقت بين ليل ونهار، لكنّه ليس توزيعاً متساوياً، بحيث يكون كلّ منهما أربعاً وعشرين ساعة ثابتة على التّقدير الجبريّ كما يقولون؛ لذلك نرى اليوم ينقص مثلاً عن الأربع وعشرين ساعة عدّة دقائق تُضاف إلى زمن اللّيل أو العكس، لذلك قالوا من أيّام بطليموس: السّنة (365) يوماً وخمس ساعات، وخمس وخمسون دقيقة، واثنتا عشرة ثانية بالدّقّة، بعدها انتهوا إلى أنَّ السّنة (365) يوماً وربع يوم عن طريق الجبر، فكلّ ثلاث سنين نجبر الرّابعة، ويقولون: سنة بسيطة، وسنة كبيسة؛ أي: طويلة، فالّتي تقبل القسمة على أربعة سنة كبيسة، لذلك نجد شهر شباط في هذه السّنة (29) يوماً، ذلك لنعوض اليوم.
وكلمة: (يوم) تعني اللّيل والنّهار، لكنّ القسمة بينهما ليست متساوية، فالحقّ سبحانه وتعالى بصنعته الحكيمة أراد أنْ يُوزّع الحرارة والبرودة على كلّ مناطق المعمورة، ويعطي لكلّ منطقة ما تحتاجه لتنبت أرضها، وتعطينا مقوّمات حياتنا، بدليل أنّ من النّباتات ما لا ينمو إلّا في الصّيف، ومنها ما لا ينمو إلّا في الشّتاء، كذلك في الاعتدال الرّبيعيّ والاعتدال الخريفيّ، لذلك، عرفنا أخيراً أنّ الخالق سبحانه وتعالى جعل لمحور الأرض ميلاً بمقدار (5,23) درجة عن مستوى مدارها فهي غير مستوية، ففي فصل الشّتاء يكون القسم الكبير منها مواجهاً للّيل، والآخر مواجهاً للنّهار، فنجد ليل الشّتاء أطول من ليل الصّيف وأبرد منه، ويبلغ ليل الشّتاء أقصى ما يمكن من الطّول وهو (12) ساعة، ومقابل ذلك في فصل الصّيف، فكأنّ ميل محور الأرض سرٌّ من أسرار هندسة هذا الكون، ففي الحادي والعشرين من حزيران يبدأ الانقلاب الصّيفيّ، وفي الثّالث والعشرين من كانون الأوّل يبدأ الانقلاب الشّتويّ، ثمّ الاعتدال الرّبيعيّ في الحادي والعشرين من آذار، والاعتدال الخريفيّ في الثّاني والعشرين من أيلول، وفي الاستواء الرّبيعيّ والاستواء الخريفيّ نجد أنّ اللّيل مساو للنّهار، وجوّهما معتدل لا حرّ ولا برد، فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ : يعني: لا تظنّ أنّ اللّيل والنّهار قسمة متساوية؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى بحكمته يُدخل جزءاً من اللّيل في النّهار، أو جزءاً من النّهار في اللّيل، فيزيد في أحدهما، وينقص من الآخر لحكمة أرادها سبحانه وتعالى لمصلحة الإنسان، وإمداداً له بمقوّمات حياته، لنعلم أنّ ما يطرأ على اللّيل أو النّهار من تغيير الأشياء لها مناط في الحكمة الإلهيّة العليا، وحين نُقسّم اليوم إلى ليل ونهار -وهي قسمة كما قلنا: ليست رتيبة ولا متساوية- فإنّ للّيل مهمّة في الحياة وللنّهار مهمّة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النّبأ]، معنى اللّباس: السّكن والرّاحة؛ لذلك عرفنا فيما بعد أنّ الضّوء في أثناء النّوم أمر غير صحّيّ، وفهمنا قول رسول الله ﷺ: «أَطْفِئُوا الـمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُـمْ»([1])، والقرآن الكريم حين يتحدّث عن اللّيل والنّهار يقول كلاماً عامّاً يفهمه كلّ معاصر لمرحلة من مراحل التّقدّم العلميّ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ [الإسراء: من الآية 12]، ويقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان]، ومعنى: ﴿خِلْفَةً﴾ ؛ أي: يُخالف أحدهما الآخر ويأتي بعده، وهذا صحيح الآن، فنحن نرى اللّيل يخلف النّهار، والنّهار يخلف اللّيل، لكن كيف نتصوّر هذه المسألة في بَدْء الخَلْق؟ لو أنّ البداية كانت بخَلْق الأرض مواجهة للشّمس، فالنّهار أوّلاً ليس خِلْفة لشيء قبله، ثمّ تغيب الشّمس فينشأ اللّيل ليكون خِلْفة للنّهار، وفي المقابل إن وجدت الأرض غير مقابلة للشّمس، فاللّيل هو الأوّل ليس خِلْفة لشيء قبله، فلا يحلّ لنا هذه المسألة إلّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان: من الآية 62]؛ أي: من بداية الخَلْق وهما خِلْفة، وهذا لا يتأتّى ولا يسوغ إلّا إذا كانت الأرض مكوَّرة، بحيث يكون الجزء المقابل للشّمس منها مكوّناً للنّهار، والجزء الآخر للّيل في وقت واحد، فلمّا تحرّكت الأرض في دورانها صار كلّ منها خِلْفة للآخر، فمعطيات القرآن الكريم يهضمها العقل، ولا يعارضها أبداً، ومن عجائب اليوم في هذه الكواكب أنّ يوم الزّهرة مثلاً (244) يوماً بيومنا نحن، أمّا العام فيساوي (225) يوماً بيومنا، فكأنّ يوم الزّهرة أطول من عامها، كيف؟ قال العلماء: لأنّ المدار مختلف عن مدار الأرض، فاليوم نتيجة دورة الكوكب حول نفسه، والعام نتيجة دورة الكوكب حول الشّمس.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ : لنا أن نلحظ دقّة الأداء القرآنيّ في الانتقال من الفعل المضارع: ﴿يُولِجُ﴾ ، إلى الماضي: ﴿وَسَخَّرَ﴾ ففي الكلام عن حركة اللّيل والنّهار قال: ﴿يُولِجُ﴾ ، ولـمّا تكلّم عن الشّمس والقمر قال: ﴿وَسَخَّرَ﴾ ؛ لأنّ التّسخير تمّ مرّة واحدة، ثمّ استقرّ على ذلك، أمّا إيلاج اللّيل في النّهار، وإيلاج النّهار في اللّيل فأمر مستمرّ يتكرّر كلّ يوم، فناسبه المضارع الدّالّ على التّكرار.
﴿كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ : أي: إلى غاية محدودة؛ لذلك نسمّي العمر النّهائيّ: الأجل، والمراد بالأجل المسمّى يوم القيامة، فكأنّ الخالق سبحانه وتعالى ضمن لنا استمرار الشّمس والقمر إلى قيام السّاعة، فاطمئنّوا، ثمّ أيُّ عظمة هذه في كوكب مضيء ينير العالم كلّه منذ خلقه الله سبحانه وتعالى وإلى قيام السّاعة، دون صيانة ودون قطعة غيار؛ ذلك لأنّه مبنيّ على التّسخير القهريّ الّذي يمنع الاختيار، فليس للشّمس أنْ تمتنع عن الشّروق وكذلك القمر، ومن العظمة في الألوهيّة هذه الرّحمانيّة الرّحيمة الّتي تحتضن الجميع المؤمن بها والكافر، وفي هذه الآية ورد التّعبير بلفظ: ﴿كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ، وفي مواضع أخرى ورد بلفظ: ﱣﱦ ﱧﱨﱢ [الرّعد: من الآية 2]، بـ (اللّام) بدلاً من: (إلى)، وكذلك في سورتي فاطر (13) والزّمر (5)، ولكلّ من الحرفين معنى: ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾ تعطينا الصّورة لمشية الشّمس والقمر قبل وصولهما الأجل، إنّما: ﴿لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [فاطر: من الآية 13]؛ أي: الوصول المباشر للأجل، وكما أنّ للّيل مهمّة وللنّهار مهمّة، كذلك للشّمس مهمّة، وللقمر مهمّة بيَّنها الله عزَّ وجلَّ في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: من الآية 5]، وفي موضع آخر قال سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان]، فالضّياء للشّمس فيه نور وحرارة، على خلاف نور القمر الّذي لا حرارة فيه، ومن عجائب أمر القمر أنّنا كُنَّا نحسبه قطعة من اللّؤلؤ مضيئة في السّماء، حتّى إنّ الشّعراء درجوا على تشبيه المحبوبة بالقمر، ولو عرفوا حقيقة القمر الّتي عرفناها نحن اليوم ما صحَّ منهم هذا التّشبيه.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ : الله سبحانه وتعالى كلّف الإنسان، وسيحاسبه، وهو خبير بما يعمله، ويعلم ما في الصّدور، وقد شرع لنا الأعمال الّتي تنظّم حركة حياتنا وحركة عبادتنا؛ لذلك نجد رمضان مثلاً يدخل باللّيل فنقول: هذه اللّيلة من رمضان، أمّا يوم عرفة فيدخل بيومه؛ لأنّه يوم مجموع له النّاس.
وقوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ معطوفة على: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ﴾ ، فالتّقدير: (ألم تر أنّ الله بما تعملون خبير).
([1]) صحيح البخاريّ: كتابُ الأشربةِ، بابُ تغطيةِ الإناءِ، الحديث رقم (5624).