الآية رقم (14) - أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾: منهج الله سبحانه وتعالى هو أقوم المناهج وأصلحها؛ لأنّه منهج الخالق سبحانه وتعالى الّذي يعلم مَن خلق ويعلم ما يصلح الخلق، فالصّانع من البشر يعلم صنعته ويضع لها من تعليمات التّشغيل والصّيانة ما يضمن لها سلامة الأداء وأمن الاستعمال، فإذا ما استعملت الآلة حسب قانون صانعها أدّت مهمّتها بدقّة، وسَلِمَت من الأعطال، فالّذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته، فيقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا.. فآفة النّاس في الدّنيا أنّهم وهم صنعة الله سبحانه وتعالى يتركون أوامره ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم، ولا يلجؤون إلى أوامر الله تعالى، ولا تستقيم الحياة إلّا بمنهج الله سبحانه وتعالى، واستقامة الحياة بالقيم والأخلاق، والأوامر والنّواهي الّتي تمنع عن الحرام وتمنع عن سلوك الطّرق المعوجّة، فيصلح حال البشر، ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: من الآية 88]، لكنّ الحقّ سبحانه وتعالى يبشّرنا بما هو أعظم منها، وبما ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها، فجمع لنا ربّنا تبارك وتعالى نعيمَي الدّنيا والآخرة، نعيم الدّنيا؛ لأنّنا سرنا فيها على منهجٍ معتدلٍ ونظامٍ دقيق، يضمن لنا فيها الاستقامة والسّلام والتّعايش الآمن مع الخلق، ومن ذلك قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: من الآية 38]، وقوله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: من الآية 123]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النّحل]، فالله سبحانه وتعالى يعلم كلّ شيء فينا، وهو سبحانه وتعالى يقول لنا: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، فالّذي صنع الكرسيّ -ولله المثل الأعلى- يعرف أنّ الكرسيّ مصنوعٌ من الخشب، ونوع هذا الخشب، والمسمار الّذي يربط الجزء بالجزء إمّا مسمار صلب، وإمّا من مصدر آخر، كذلك يعلم أيّ صنفٍ من الغِرَاء استعمل في لصق أجزاء الكرسيّ، وكذلك مواد الدّهان الّتي تمّ دهنه بها، فقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ لا يحتاج إلى جدال، ولذلك نجد النّجّار الّذي يرغب في أن تكون صنعته مكشوفة واضحة يقول للمشتري: سوف أصنع الكرسيّ من خشب الزّان، وعليك أن تمرّ يوميّاً لرؤية مراحل صنعه، حتّى يرى كيف يتمّ.

﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾: إنّه خبيرٌ عليمٌ بكلّ شيءٍ، فلا بدّ من علم؛ لأنّ الّذي صنع الإنسان يعرف ما يناسبه وما يفسده، وهذا يتطلّب قدرة، فالعلم وحده لا يكفي، علمٌ وقدرة، علمٌ بالقوانين الّتي وضعها الله سبحانه وتعالى لخلقه، وقدرة مطلقة لله سبحانه وتعالى على خرق هذه القوانين، وجعل القوانين تفعل أو لا تفعل، وقد جاء الحقّ سبحانه وتعالى بهذا القول الفصل: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾.

﴿ اللَّطِيفُ ﴾: من أسماء الله الحسنى فهو سبحانه وتعالى الّذي لا تخفى عليه خافية، وهو الّذي خلق الخلق كلّهم، ويعلم -وهو العليم- ما يصلح للبشر من قوانين.

ونجد بأنّ الله سبحانه وتعالى قال هنا: ﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، لطيفٌ بالخلق، لطيفٌ بعباده، فالنّاس يستمسكون باسم اللّطيف ويردِّدونه، وليس فقط لطيف بعباده، بل أيضاً خبير.

﴿ الْخَبِيرُ ﴾: خبيرٌ على وزن فعيل؛ أي: يمارس الخبرة باستمرار، فالله سبحانه وتعالى يعلم، وهو لطيفٌ بعباده، وهو خبيرٌ بما يصلح لهم في حياتهم الدّنيا، وبما يناسبهم من أجل الآخرة، فاطمئنّوا، فربّكم ليس له من يؤثّر عليه، والله سبحانه وتعالى لا ينتفع بما يشرّعه لنا؛ لأنّه سبحانه وتعالى خلقنا بقدرته، وهو الغنيّ عنّا لا تنفعه طاعة الطّائعين، ولا تضرّه معصية العاصين. والعليم؛ أي: الّذي يعلم كلّ شيءٍ خافياً كان أو ظاهراً، والعلم كلّه منه، وعلمه هو الّذي يجعل الإنسان يسير على هذه الأرض ويأخذ من عطايا علم الله عز وجل المستتر، ولو أخذت البشريّة عن الله سبحانه وتعالى العلم بكلّ شيء لصارت الدّنيا إلى انسجامها، وهو جل جلاله العليم بكلّ خفايا عباده، والكاشف لكلّ الملكات النّفسيّة للعباد، وقد عَلِمَ سبحانه وتعالى أزلاً بكلّ سلوك وكلّ خافية، وهو العليم أبداً بما ينفع النّاس جميعاً، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصّدور، وهو العليم بما تتطلّبه الحكمة علماً يحيط بكلّ الزّوايا والجهات.

وهو سبحانه وتعالى: ﴿ اللَّطِيفُ ﴾، يقول جل جلاله: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام]، فأنت أيّها المؤمن تُصدّق ذلك، فاللّطف أمرٌ لا تبصره العيون، ولا تدركه، وفي الكون أشياء لا ندركها مع أنّه سبحانه وتعالى خلقها وعملت في خدمتنا، وبعد أن أدركناها ظلّت تعمل في خدمتنا، فإن حدّثك الحقّ سبحانه وتعالى بشيء لا تدركه فلا تقل: ما دام هذا الشّيء غير مُدرَك فهو غير موجود، وعلى سبيل المثال: أنت لا تدرك الكهرباء، ولا الجاذبيّة، ولا قمّة أسرار الحياة، وهي الرّوح الّتي تعطيك سرّ الحياة وتنفعل بها جوارحك كلّها، وإن خرجت الرّوح أصبح الإنسان جثّة هامدة.

وكلمة: ﴿اللَّطِيفُ﴾ لها معنى خاصّ، فالشّيء اللّطيف يُستعمل في الدّقيق التّكوين ولله المثل الأعلى، فالميكروب لم نعرفه إلّا مؤخّراً؛ لأنّه بلغ من اللّطف والدّقّة بحيث لا تدركه العين، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه، وإن بَعُدَ الميكروب عن ذلك فلن نراه، فكلّما دقّ الشّيء لطف ولا يمكن أن نراه، والشّيء إذا لَطُف أصبح أعلى وأهمّ، ونقول -ولله المثل الأعلى-: فلانٌ لطيف المعشر، والحقّ سبحانه وتعالى لطيفٌ في ذاته ويلطف بعباده.

فعندما نسمع (لاطف) فهذا اسم فاعل مثل: (آكل)، وحين نقول: (لطيف) فهي مبالغة في اللّطف؛ لأنّه لاطف بكلّ إنسان وكلّ كائن، وهذا يحتاج إلى مبالغة، ولذلك نقول: (رحيم)، وهي صيغة مبالغة؛ لأنّه سبحانه وتعالى يُسبغ رحمته على عباده.

وأوّل مظهر من مظاهر اللّطف هو تدبير أمورنا الدّقيقة تدبيراً يحقّق مصالحنا في وجودنا، تدبير اللّطيف بعباده، فقد خلق الله سبحانه وتعالى لنا الأرض، ثلاثة أرباعها ماء والرّبع يابس؛ لأنّه جل جلاله يريد أن يوسّع رقعة الماء، فكلّما اتّسعت رقعتها كان البخر فيها أسهل وأكثر، ولو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر سيكون على مستوى السّطح فقط، وهنا لا يأتي السّحاب بما يكفي الخلق من الماء، لقد وسّع الله سبحانه وتعالى رقعة الماء كي يتبخّر الماء ثمّ ينعقد كسحب في السّماء، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها وتشرب أنعامنا ونسقي الزّرع، وكلّ ذلك من لطف التّدبير.

ومن مظاهر اللّطف في الحقّ نجد أموراً لا توصف، ولذلك كلّ واحد من العلماء ينظر إلى زاوية من زوايا لُطف الله سبحانه وتعالى بخلقه، فواحدٌ قال: هو سُبوغ النّعمة، وقال الثّاني: هو دقّة التّدبير، وقال الثّالث: إنّ من مظاهر لطف الحقّ أنّه يستقلّ كثيراً من النّعم على خلقه؛ لأنّ خزائنه سبحانه وتعالى ملأى وعطاياه لا تنفد ولا يعتريها نقص.. فمظاهر اللّطف لا حصر لها، وعلى قدر دقّة اللّطف تكون دقّة إحصائه، فهو اللّطيف الّذي إذا ناديته لبّاك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافأك، وإذا أقرضته من فضله وماله الّذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك.

ويأتي عالِـمٌ آخر ممّن انفعلوا بصفات اللّطف فيقول: الّذي يجازيك إن وفّيت، ويعفو عنك إن قصّرت، وآخر يضيف إلى معاني اللّطف فيقول: مَن افتخر به أعزّه، ومن افتقر إليه أغناه، وعالِـمٌ ينفعل انفعالاً آخر بمظاهر اللّطف فيقول: مَن عطاؤه خير ومنعه ذخيرة؛ أي: أنّه لو منع عبده شيئاً فإنّه يدّخره له في الآخرة، كلّ هذه مظاهر للطف الله عز وجل.

والحقّ سبحانه وتعالى يصف ذاته بأنّه هو: ﴿ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾، فهو لطيفٌ يعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، خبيرٌ بكلّ شيءٍ، وقديرٌ على كلّ شيء.

ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: من الآية 100]، فسبحانه هو المدبّر الّذي لا تخفى عليه خافية أبداً، وكلمة (لطف) ضدّ كلمة (كثافة)، فاللّطيف هو الّذي له جرمٌ دقيق، والشّيء كلّما لطُفَ ارتقى، هذا بالنّسبة إلى الإنسان، لكن مع الله سبحانه وتعالى نقول: سبحان الله، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، وهو العليم بموقع وموضع كلّ شيء، فهو سبحانه وتعالى يجمع بين اللّطف والخبرة، فلطفه لا يقف أمامه شيءٌ، ولا يوجد ما هو مستورٌ عنه، ولا يقوم أمام مراده شيءٌ، وهو الخبير الّذي يعلم خبايا الأمور حتّى في المسائل الدّقيقة.

«أَلا يَعْلَمُ مَنْ» ألا حرف استفتاح ومضارع وفاعله

«خَلَقَ» ماض فاعله مستتر والجملة صلة.

«وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» مبتدأ وخبراه والجملة حال