الآية رقم (15) - هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ﴾: يلفتنا المولى سبحانه وتعالى هنا إلى خلق الأرض، والأرض هي المكان الّذي يعيش فيه النّاس، ولا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّه خلق الأرض أو أوجدها، ولنا أن نلتفت إلى فارقٍ مهمٍّ بين (الخلق) وبين (الجعل)، فالخلق شيءٌ والجعل شيءٌ آخر.

الخلق: هو إيجادٌ من عدم، والجعل: هو توجيه مخلوق إلى مهمّته في الحياة، فخلق الله سبحانه وتعالى لا يخلقون شيئاً، إنّما الخلق والإيجاد له جل جلاله، وعلينا نحن الخلق أن نخصّص كلّ شيء لمهمّته في حياته الّتي أرادها الله سبحانه وتعالى؛ أي: أن نترك (الجعل) لله عز وجل ولا نتدخّل فيه، فعلى سبيل المثال الخالق سبحانه وتعالى خلق الخنزير ليأكل من القاذورات، وليحمي الإنسان من أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان أن يخصّص الخنزير لهذه المهمّة فلا يحوّله إلى غير مهمّته كأن يأكله مثلاً؛ لأنّ تحويل مهمّة مخلوق لله سبحانه وتعالى إلى غير مهمّته هو أمرٌ يضرّ بالإنسان الّذي أراده الله سبحانه وتعالى سيّداً مُستخلفاً في الكون.

والخالق سبحانه وتعالى هو الّذي (خلق) وهو الّذي (جعل)، ومثال هذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: من الآية 5]، فالأمر ليس أمر التّذكير بخلق الله سبحانه وتعالى للشّمس والقمر، بل هو أمر التّذكير بما جُعلت له الشّمس وبما جُعل له القمر؛ أي: المهمّة الّتي خُلق من أجلها كلٌّ منهما.

فالفساد إنّما ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقاً لله عز وجل في مهمّةٍ غير تلك الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى له، وعلينا أن نسلّم بأنّ كلّ شيءٍ مخلوقٌ لمهمّة، فلا يصحّ أن نوجّه شيئاً إلى غير مهمّته، وتوجيه أشياء إلى غير ما جُعلت له أنتج آثاراً ضارّة، فالأرض خلقها الله سبحانه وتعالى وجعلها لمهامٍّ محدّدة، حدّدها سبحانه وتعالى في كتابه، قال جل جلاله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ [البقرة: من الآية 22]، فكلمة: ﴿ فِرَاشًا ﴾ توحي بأنّ الله سبحانه وتعالى أعدّ الأرض إعداداً مريحاً بشريّاً، ونحن نتوارث الأرض جيلاً بعد جيل، وهي تصلح لحياتنا جميعاً، ومنذ خلقت الأرض إلى يوم القيامة ستظلّ مهداً وفراشاً للإنسان، وحتّى عندما تقدّمت الحضارة وازدادت الرّفاهيّة ظلّت الأرض مهداً وفراشاً مع ما وُجد عليها من أشياء ليّنة، فكأنّ الله سبحانه وتعالى قد أعدّها لنا إعداداً يتناسب مع كلّ جيل، فكلّ جيل رُفِّه في العيش بسبب تقدّم الحضارة كشف الله سبحانه وتعالى ما يطوّع له الأرض ويجعلها فراشاً، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ [طه: من الآية 53]، والمهد: هو فراش الطّفل، ولا بدّ أن يكون مريحاً، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿مَهْدًا﴾، من التّمهيد وتوطئة الشّيء ليكون صالحاً لمهمّته، فمعنى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ﴾ [طه: من الآية 53]؛ أي: سوّاها ومهّدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [الرّوم: من الآية 44]، فكأنّ الّذي يعمل الصّالح في الدّنيا يمهّد لنفسه فراشاً في الآخرة، فالعمل الصّالح يسبق صاحبه إلى الجنّة ليمهّد له فراشه، فالأرض ذلولٌ مسخّرة من أجل الإنسان، والرّزق يأتي من الأرض.

والله سبحانه وتعالى ذلّل لنا أشياء كثيرة في هذا الكون، وأصبحت الأرض مسهّلة للحرث، وقد ذلّل الله جل جلاله لنا الأنعام، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس]، وعلى المؤمن أن يتذكّر أيضاً أنّ الحقّ سبحانه وتعالى ذلّل الجمل لصاحبه، وجعل الطّفل الصّغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض ليضع عليه الأحمال الثّقيلة ويأمره فيقوم، بينما لم يذلِّل الثّعبان أو الحيّة، ومن التّذليل يأتي رضوخ بقيّة الكائنات للإنسان، فالحمار عند الفلّاح يحمل السّماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان، ولا ينطق الحمار معترضاً، فهذه من أمور كثيرة تبيّن معنى: ﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾ [يس: من الآية 72]، وهي مهمّة لنفهم طبيعة العلاقة بيننا وبين الحياة، وألّا نتكاسل عن العمل، ومن حكمته سبحانه وتعالى ورحمته بنا أن ذلّل لنا سبل الحياة، وذلّل لنا ما ننتفع به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها.

فالإسلام حثّ على العلم والعمل، وعلى الحضارة، وعلى أن ننتفع بما أراده الله سبحانه وتعالى لنا.

﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾: مناكبها؛ أي: في جوانبها وأطرافها؛ أي: في كلّ مكان، فالأرض مذلّلة مسخّرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾  [الجمعة: من الآية 10]، فالإنسان يأخذ الرّزق من الأرض، وقانون الإصلاح الّذي جعله الله سبحانه وتعالى لحياة البشر يقوم على الضّرب في الأرض والسّعي في مناكبها، وفيه مقوّمات الحياة، فإذا تكاسلنا فإنّنا تخلّفنا وخالفنا أوامر ربّنا سبحانه وتعالى.

﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾: فنسب الرّزق إلى الله سبحانه وتعالى، وفي آياتٍ أخرى ينسب الرّزق إلى الإنسان، والحقّ سبحانه وتعالى يطمئن كلّ إنسان أنّ الرّزق يعرف عنوانه، فيأتيه من حيث لا يحتسب، بينما الإنسان لا يعلم عنوان الرّزق، أمّا السّعي إلى الرّزق شيءٌ آخر، فقد تسعى إلى رزقٍ ليس لك، بل هو رزقٌ لغيرك.

﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾: أي: النّشر، والنشر يعني الانطلاق في الأرض بالحركة، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: من الآية 10]، والحقّ سبحانه وتعالى قد جعل النّهار نُشوراً بعد سبات اللّيل، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾  [الفرقان]، أمّا هنا بهذه الآية فالمراد بالنّشور: الانتشار من القبور للبعث يوم القيامة، والنّشر معناه تفريق المنشور في الحيّز.

«هُوَ الَّذِي» مبتدأ وخبره والجملة استئنافية لا محل لها

«جَعَلَ» ماض فاعله مستتر

«لَكُمُ» متعلقان بالفعل

«الْأَرْضَ» مفعول به أول

«ذَلُولًا» مفعول به ثان والجملة صلة

«فَامْشُوا» الفاء الفصيحة وأمر وفاعله

«فِي مَناكِبِها» متعلقان بالفعل والجملة جواب شرط مقدر لا محل لها

«وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» معطوف على ما قبله

«وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والجملة حال

  الأرض ذلولا مُذلـّـلة ليّـنـَـة سَهْلة تستقـرّون عليها
  مَناكبها جَوَانبها . أو طُرُقِها وفِجَاجها
  إليه النشور إليه تبْعثون من القبور