لقد رتّب الحقّ سبحانه وتعالى حقوقاً للمرأة المطلّقة في السّكن والنّفقة، لم يرتّبها دين من الأديان، ولا تشريع من الشّرائع، راعى فيها الحقّ سبحانه وتعالى أحوال المرأة من حيث الطّلاق الرّجعيّ، أو البائن بينونة صغرى أو كبرى، ورتّب حقوقاً للمطلّقة الحامل؛ لأنّها أولى بالرّعاية، هي وابنها الّذي من حقّه الرّضاعة وإنفاق أبيه على رضاعته، وأمر الجميع بالتّشاور والتّناصح من أجل مصلحة طفلهما رغبة في إرضاء الله سبحانه وتعالى، والإسلام يحفظ للمرأة حقوقها، أيّاً كانت الحالة الّتي طُلِّقَت عليها، فإن كان طلاقها رجعيّاً احتفظ لها بحقّ السّكنى في مسكن الزّوجيّة، وكذلك النّفقة عليها، عسى أن يذيب القرب ما حدث بينهما من جفاء فيرجعها زوجها، وتستمرّ بهما الحياة، ويستقرّ الأمر بينهما بعد الخصام، وينشأ الأولاد بينهما في جوٍّ سليم، بل إنّ الله سبحانه وتعالى حرّم على الزّوج طرد مطلّقته الرّجعيّة من البيت، أو إرجاع الزّوجة إلى بيت أهلها، إلّا إن جاءت بفاحشة واضحة لا تحتمل اللّبس أو الشّكّ أو عدم اليقين.
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾: أي: أسكنوا المطلّقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم، وقدر سعتكم وطاقتكم، ولو كان ذلك في حجرة من غرف الدّار الّتي تسكنون فيها، فالوجد: الغنى والمقدرة.
﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾: ولا تلحقوا بهنّ ضرراً في النّفقة والسّكنى، فتلجئوهنّ إلى الخروج من المسكن، أو التّنازل عن النّفقة.
وهذا بيان ما يجب للمطلّقات من السّكنى في المستوى الملائم لحال الرّجل؛ لأنّ السّكنى نوع من النّفقة الواجبة على الزّوج، فإذا طلّق الرّجل زوجته، وجب عليه أن يسكنها في منزل حتّى تنقضي عدّتها، دون مضارّة في السّكنى أو النّفقة.
﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾: أي: إن كانت المرأة المطلّقة حاملاً، وجب الإنفاق عليها حتّى تضع حملها، ولا خلاف بين العلماء في وجوب النّفقة والسّكنى للحامل المطلّقة، وقيل: تجب النّفقة والسّكنى لكلّ مطلّقة، ولو مبتوتة، وإن لم تكن ذات حمل، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾، وترك النّفقة من أكبر الأضرار، ثمّ أمر الله سبحانه وتعالى بدفع الأجرة على الرّضاع، والأجرة هنا عبارة عن نفقة، فقال:
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾: أي: فإن أرضعت الأمّهات المطلّقات أولادكم بعد ذلك، فأعطوهنّ أجور إرضاعهنّ.
﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾: وتآمروا وتشاوروا أيّها الأزواج والزّوجات الّذين وقع بينهم الفراق بالطّلاق بما هو جميل معروف، وحسن غير منكر، في شأن الولد بما يضمن أوضاعه الصّحّيّة والمعاشيّة، وما تحتاجه المرأة في أثناء الرّضاع من أدوية ونفقات وغيره، من غير إضرار ولا مضارّة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾[البقرة: من الآية ٢٣٣]، وقال جلّ جلاله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة: من الآية ٢٣٣]، والآية دليل على أنّ أجرة الرّضاع للأولاد على الأزواج، وحقّ الحضانة للزّوجات.
﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾: أي: وإن تضايقتم واختلفتم في شأن الإرضاع، فأبى الزّوج أن يُعطي الأمّ النّفقة، وأبت الأمّ أن ترضعه، فيستأجر الأب مرضعة أخرى ترضع ولده، وذلك إذا قَبِل الولد ثدي امرأة أخرى، وإلّا وجب الإرضاع على الأمّ. ثمّ أبان الله سبحانه وتعالى مقدار النّفقة، فقال: