الحقّ عزَّ وجلَّ يضع لرسوله صلى الله عليه وسلم قضيّة، هي أنّ الدّين إنّما جاء ليعصم النّاس من أهواء النّاس، فلكُلِّ نفس بشريّة هَوىً، وكلّ إنسان يعجبه هواه، وما دام الأمر كذلك فلن ينقاد لغيره؛ لأنّ غيره أيضاً له هوىً؛ لذلك يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: من الآية 71]، لكن، لماذا تختلف الأهواء؟ قالوا: لأنّ طبيعة الحياة تتطلّب أن تكون الأهواءُ مختلفةً؛ لأنّ مجالات الحياة متعدّدة، فهذا هواه في كذا، وهذا هواه في كذا، فترى الصَّديقَيْن يلازم أحدهما الآخر، ويشاركه طعامه وشرابه، فلا يفرّقهما شيء، فإذا ما ذهبا لشراء شيء ما تباينتْ أهواؤهما، فالّذين اختلفوا مثلاً في تصميم الأشياء يخدمون اختلاف الأذواق والرّؤى، لذلك يقولون: خلاف هو عَيْن الوفاق؛ لأنّه يؤدّي إلى التّعدّد، ووفاق هو عَيْن الخلاف، لكن إذا اتّخذ الإنسان هواه إلهاً فهنا تكون المشكلة، قال عزَّ وجلَّ:
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾: الهَوى: أن تكون هناك قضيّة ظاهرٌ فيها وَجْه الحقّ، إلّا أنّك تميلُ عنه وأنت تعرفه، لا أنّك تجهله، لذلك يقول العلماء: آفةُ الرّأْي الهوى، فالرّأي قد يكون صائباً، لكن يميل به الهوى حيث يريد الإنسان، وقلنا: لا أدلّ على ذلك من أنّ الرّجل منهم كان يسير فيجد حجراً أجمل من حَجره الّذي يعبده، فيُلْقي الإله الّذي يعبده ليأخذ هذا الّذي هو أجمل منه فيتّخذه إلهاً، فهواه في جمال الحجر غلب أنّه إله.
وقد وقف المستشرقون عند قوله عزَّ وجلَّ في حَقِّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النّجم]، يقولون: كيف يحكم الله عزَّ وجلَّ بأنّ رسوله لم ينطق عن الهوى، وقد عدَّل له بعض ما نطق به، مثل قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾[التّحريم: من الآية 1]، وقال تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ﴾[التّوبة: من الآية 43]، وهنا نجيبهم: لا بُدَّ أن نُحدِّد مفهوم الهوى أوّلاً، فصاحب الهوى لديه قضيّتان: الحقّ واضح في إحداهما، إلّا أنّ هواه يميل إلى غير الحقّ، أمّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه نطق؛ لأنّه لم تكن هناك قضيّة واقعة وهو يعرف وجه الحقّ فيها فحاد عنها -حاشاه-، فهو ﷺ لم يَسِرْ على الهوى، إنّما على ما انتهى إليه اجتهاده، ألَا نرى قوله تعالى لرسوله ﷺ في مسألة تبنِّيه لزيد بن حارثة رضي الله عنه: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: من الآية 5]، فمعنى أنّ نسبته لأبيه أقسط أنّ رسول الله ﷺ لم يكُنْ جائراً، فما فعله قِسْط، لكنّ فِعْل الله عزَّ وجلَّ أقسط منه، فالحقّ عزَّ وجلَّ لم يُخطّىء رسوله صلى الله عليه وسلم، وسمّى فِعْله عدلاً، وهو عَدْل بشريّ يُناسب ما كان من تمسُّك زيد رضي الله عنه برسول الله ﷺ، وتفضيله له على أهله، فلم يجد رسول الله ﷺ أفضلَ من أنْ يتبنَّاه مكافأةً له.
﴿أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾: وكيلاً يتولَّى توجيهه، ليترك هواه ويتّبع الحقّ، كما قال عزَّ وجلَّ في موضعٍ آخر: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾[الغاشية]، وقال تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[يونس: من الآية 99]، وقال تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشّورى: من الآية 48]، فالّذي اتّبع هواه حتّى جعله إلهاً له لا يمكن أنْ تحمله على أنْ يعدل عن هواه؛ لأنّ الأهواء مختلفة، فبعض النّاس يريد أنْ يتمتّع بجهد غيره، فيضع يده في جيوب الآخرين ليسرقهم، لكن أيسرُّه أن يفعل النّاسُ معه مثلَ فِعْله معهم؟! فهوى صادمَ هوى، فأَيُّهما يغلب؟ يغلب مَنْ يحكم بلا هوى، لا لك ولا عليك، وقضيّة الحقّ في ذاتها لا توجد إلّا من الله عزَّ وجلَّ، فقضيّة: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ نراها اليوم بكلّ معانيها، فليست القضيّة أن تجعل هواك تمثالاً ثمّ تعبده، قد تكون تصلّي وتعبد الله عزَّ وجلَّ، لكنّك تعبد إلهاً آخر هو أنّك تريد أن تسير وفق هوى نفسك، تعبد نفسك بدلاً من ربّك، عندما ترى المنكرات وعندما تفعل الموبقات، وعندما تسرق وتزني وترتشي وتكذب وتنمّ فأنت تعبد إلهاً آخر، هو هوى النّفس.