نزلت هذه الآيات بعد غزوة (أحد) حيث اعتقد اليهود أنّ المسلمين قد هزموا، والهزيمة هي أن تخسر الأرض وتخسر المعركة، والمسلمون لم يخسروا أرضاً ولا معركة في أُحُد، إلّا أنّ الرّماة خالفوا أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أمرهم بعدم مغادرة الجبل المشرف على أرض المعركة، فنزلوا منه ظنّاً منهم أنّ المعركة قد انتهت، فأراد الله تعالى أن يجعل من هذه المخالفة درساً لتعليمهم الإيمان والطّاعة. وقد ودّ كثير من أهل الكتاب، أي أرادوا وأحبّوا أن يردّوا المسلمين عن دينهم إلى الكفر وقالوا لهم: لو كان نبيّاً لما هُزِم ولَـمَا هُزمتم معه. وفي الآية: ﴿كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ولم تأت (كلّهم)؛ لأنّ فيهم من أسلم واتّبع النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يكن التّعميم. أمّا الّذي دفع اليهود إلى أن يتمنّوا ارتداد المسلمين عن دينهم فهو حسد نشأ من أنفسهم لم يأمرهم به دينهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ هم يعلمون أنّ المسلمين على دين حقّ، ورد ذلك في توراتهم، لكنّهم يريدون إعادتهم إلى الكفر حسداً. والحسد يضرّ المحسود بأمر الله، وقد ثبت في كتاب الله أنّ للحسد ضرراً وشرّاً، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق]، وعلّمنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الوقاية من الحسد بقراءة المعوّذتين ونفثها.
والحسد: تمنّي زوال النّعمة عن الغير وإن لم تنتقل النّعمة إلى الحاسد، فالحاسد يسوؤه أن يملك المحسود مالاً أو منصباً أو متاعاً من متاع الدّنيا ويتمنّى أن تزول عنه حتّى وإن لم تأت هذه النّعم إليه. والحاسد يضرّ المحسود بقدر الله؛ لأنّه لا يخرج شيء في ملك الله عن قدره، كما أنّ الأفعى تؤذي الإنسان إذا لدغته بقدر الله، فلا شيء يخرج عن قدر الله تعالى.
﴿فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ﴾: بهذا أمر الإسلام، بالعفو والصّفح، ولم يقل: اقتلوا واذبحوا، رغم أنّ اليهود حاولوا تخذيل المسلمين عن نبيّهم وإبعادهم عن دينهم، وكانوا يتمنّون هزيمتهم، لكنّ ديننا دين العفو والصّفح. ورغم كلّ ما أراده الحاسدون بالمسلمين من ضرر وأذى فقد أمرهم الله تعالى بالعفو والصّفح، وفي آيات أخرى قال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصّلت: من الآية 34]، وقد حاول أعداء الإسلام أن يظهروه دين حقد وكراهية وإرهاب وقتل وليس في الإسلام شيء من ذلك، وكلّ ما اتُّهِم به الإسلام كان زوراً وبهتاناً، والإسلام يطلب العفو والصّفح عن المسيء، ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشّورى]، وقال الله تعالى مخاطباً النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ [النّحل]، هذا هو الإسلام. والفرق بين العفو والصّفح هو: أنّ العفو يعني الإزالة، كقولنا: عفت الرّيح الأثر، أي جاءت الرّيح ومحت الأثر، وهو إزالة الأثر الظّاهريّ في مشكلة معيّنة مع أحد النّاس، وربّما مع بقاء شيء في النّفس، أمّا الصّفح فهو قلب الصّفحة تماماً ونسيان الذّنب والإساءة، فلا يعود يخطر منه في البال شيء.
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: فلا بدّ من أن يأتي أمر الله سبحانه وتعالى بالنّصر عليهم، ولا قدرة لمخلوق مع قدرة الخالق، فهو وحده القادر على كلّ شيء.