الآية رقم (110) - وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

الردّ على ما يفعله اليهود وغيرهم من محاولة ردّ المسلمين عن إيمانهم ودينهم، هو الأمر بالصّلاة والزكاة، وقد جاء هنا بالصّلاة والزكاة وهما من أركان الإسلام.

﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ: فالصّلاة عماد الدّين، من أقامها أقام الدّين، ومن هدمها فقد هدم الدّين. والعبادات في الإسلام غير الأركان، وكلّ عمل ترجو فيه مرضاة الله فهو عبادة، أمّا الأركان فهي خمسة، وأوّلها بعد الشّهادتين الصّلاة. والصّلاة هي إعلان استدامة الولاء لله على مدار ساعات اليوم واللّيلة من خلال خمس أوقات فيهما، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ[هود: من الآية 114]، وقال سبحانه وتعالى:  ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي[طه]، وقال سبحانه وتعالى:  ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا[الإسراء]، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصّلاة؛ لأنّ فيها إعلان استدامة الولاء لله. ومفتاح الصّلاة (الله أكبر)، ولا تقبل الصّلاة بدونها، فالله أكبر من نفسي ومن همّي ومن شغلي ومن عدوّي.. والله أكبر من كلّ شيء، وحين ينادي المنادي: (الله أكبر.. الله أكبر) فهو يدعو بأعظم نداء إلى أعظم العبادات، أي أعلن استدامة ولائك لله واترك كلّ شيء وائت إلى الصّلاة.

وكلّ الفرائض قد تسقط عند عدم الاستطاعة إلّا الصّلاة، فالصّوم يؤجّل لمن كان مريضاً أو على سفر، والحجّ لمن استطاع إليه سبيلاً، والزكاة تسقط عمّن لم يمتلك النّصاب، لكنّ الصّلاة لا تسقط بحال من الأحوال، فمن لم يستطع الصّلاة قائماً فقاعداً أو مستلقياً أو يومئ بعينيه أو يجري أفعال الصّلاة على قلبه، ولا تسقط الصّلاة عن المسلم في أيّ حال؛ لأنّك لا يمكن أن تسقط ولاءك لله؛ لأنّ فيها (الله أكبر)، وفيها العبوديّة لله. ولن تكون حرّاً أبداً إذا لم تكن لله عبداً، فإمّا أن تكون عبداً لبشر مثلك أقوى منك أو للمال أو لخفايا نفسك أو لأهوائك… أو أن تكون عبداً لخالقك فتتحرّر من عبوديّة سواه. فإذا كنت عبداً لله كنت سيّداً بين البشر؛ لأنّك لن تخاف إلّا الله، ولا يجتمع في قلب العبد مخافتان، مخافة الله ومخافة البشر؛ ولأنّك تعلم أنّه لا يضرّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع إلّا الله جلَّ جلاله.

وكما قال الشّاعر:

حسب نفسي عزّاً أنّي عبدُ        يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ

والصّلاة -وهي أحد أركان الإسلام الخمسة- بينها وبين الأركان الأربعة الأخرى علاقة مشتركة، فالتّوجّه إلى القبلة (بيت الله الحرام) في الصّلاة يُشبه الحجّ إليه، وأنت في الصّلاة تمتنع عن الطّعام والشّراب وهذا رمز للصّوم، وفي الصّلاة ترديد للشّهادتين (أشهد ألّا إله إلّا الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله)، وهذا هو الرّكن الأوّل من أركان الإسلام، كذلك الزكاة مشتملة في الصّلاة؛ لأنّ في الصّلاة صرف لجزء من الزّمن في سبيل الله، وفي الزّكاة صرف لجزء من المال في سبيل الله، فكأنّك تدفع من مالك لتقف في الصّلاة.

﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ: وقد فرضت الزكاة على المسلم كي يتعدّى نفعه إلى غيره، ولا تفرض الزكاة إلّا على من كان كسبه أكبر من حاجته، وأداء الزّكاة يدفع صاحب المال للعمل به فيفيد هو وغيره من حركة ماله. فالزكاة تؤدّي إلى توسيع حركة المسلم في الحياة وتحقيق التّكافل الاجتماعيّ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[المعارج]،  فهي حقّ وليست منّةً ولا عطاءً. والعفو والصّفح وإقامة الصّلاة وأداء الزكاة وكلّ ما نفعل من خير للغير يعود علينا، فهو لأنفسنا، فنحن لا نقدِّمه لله سبحانه وتعالى بل نقدّمه لأنفسنا، وقد جاء في الحديث القدسيّ: «يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً»([1]) فكلّ ما تفعله من خير للغير يعود نفعه عليك؛ لأنّ فيه الثّواب، والثّواب من الثّوب الّذي يأخذه الخياط فيعيده أفضل ممّا كان. كذلك يضاعف الله سبحانه وتعالى الحسنات، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب، ولا يقبل الله إلّا الطيّب، وإنّ الله يتقبّلها بيمينه ثمّ يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوَّه حتّى تكون مثل الجبل»([2]).

﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: هذا يبعث الطّمأنينة عند المؤمن؛ لأنّ حركة حياته هي ثواب وأجر عند الله تعالى، وكفى بالله حسيباً: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزّلزلة]، ولا أحد يستطيع أن يأتي بمثقال الذرّة إلّا الله وهذا يطمئنك أنّ الله تعالى يرى عملك ويحصيه لك مهما صغر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا يقبل إلّا من كسب طيّب، الحديث رقم (1344).

وَأَقِيمُوا: الواو استئنافية أقيموا فعل أمر مبني عل حذف النون والواو فاعل.

الصَّلاةَ: مفعول به.

وَآتُوا الزَّكاةَ: الجملة معطوفة.

وَما: ما اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم للفعل تقدموا.

تُقَدِّمُوا: فعل مضارع مجزوم بحذف النون وهو فعل الشرط والواو فاعل.

لِأَنْفُسِكُمْ: متعلقان بالفعل قبلهما.

مِنْ خَيْرٍ: متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من ما.

تَجِدُوهُ: فعل مضارع مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وهو جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به.

عِنْدَ: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله.

اللَّهِ: لفظ الجلالة مضاف إليه والجملة الفعلية لا محل لها جواب شرط لم تقترن بالفاء أو إذا الفجائية.

إِنَّ اللَّهَ: إنَّ واسمها.

بِما: ما اسم موصول في محل جر بحرف الجر والجار والمجرور متعلقان بالخبر بصير.

تَعْمَلُون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

بَصِيرٌ: خبر مرفوع.

جرت سنة الله في القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع

وكلاهما من أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، بدليل ما أردف الله تعالى الأمر بهما بقوله:

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)