الآية رقم (54) - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

وهذه لقطات من القصص القرآنيّ الّذي شغل في القرآن الكريم قسماً كبيراً يزيد على ثلاثة أرباعه. هذه القصص يوردها الله جلَّ جلاله لتثبيت قلب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ  ]هود[، ولاستخراج العبر التّاريخيّة والاجتماعيّة والقوانين الاقتصاديّة، وما يتعلّق  بحركة الإنسان في الحياة، وتلك هي القصص الحقّ. وبعد أن قصّ علينا القرآن الكريم قصّة سيّدنا آدم أبي البشر وزوجه في سورة (البقرة)، ونزول موكب الرّسالات السّماويّة على الأرض، انتقل إلى قصص سيّدنا موسى عليه السَّلام مع بني إسرائيل؛ لأنّهم أكثر الشّعوب جحوداً  للنّعم وإفساداً في الأرض وسفكاً للدّماء، ولأنّ أمراضهم دائمة متكرّرة عبر الزّمان. ومن إعجاز القرآن الكريم أنّه يركّز على شيخ أنبياء بني إسرائيل (موسى عليه السَّلام) وعلى أمّته؛ لأنّه ستكون هناك قضيّة كبرى في قادم الأيّام لأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم مع بني إسرائيل، وهذا ما نراه اليوم من انتهاكات لحرمة المسجد الأقصى واحتلالهم لقلب الأمّة العربيّة (فلسطين).

وهذه مشاهد يقدّمها الله سبحانه وتعالى لنا عن ممارسات بني إسرائيل مع نبيّهم موسى عليه السَّلام وتبدأ بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ.

﴿وَإِذْ: ظرف زمان، وكلّ حدث يحتاج إلى مكان وزمان يحدث فيه، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْيعني: واذكروا في وقت كذا حدث كذا… والخطاب لبني إسرائيل الّذين عاصروا تنزيل القرآن الكريم في جزيرة العرب. ويخاطب الله سبحانه وتعالى الأجيال التّالية كلّها من خلال خطاب الآباء زمن التّنزيل للقرآن، فالعبرة بعموم المعنى وليس بخصوص السّبب، وكلام الله يستوعب الزّمان والمكان والأجناس والإنسان على مختلف انتمائه وفكره، فبعد أن أنعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ونجّاهم من عذاب فرعون وأنجاهم من الغرق، طلبوا إلهاً ماديّاً مجسّماً. والإلحاد في العالم نشأ من التّفكير اليهوديّ، فهم يريدون إلهاً مادّياً محسوساً، يرونه بأعينهم، ويلمسونه بأيديهم، وحين غاب عنهم سيّدنا موسى لتلقّي التّوراة من ربّه وترك فيهم أخاه هارون عليه السَّلام عبدوا العجل، فقال لهم سيّدنا موسى عليه السَّلام: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم؛ لأنّ الإنسان حين لا يعبد الله لا يظلم الله، بل يظلم نفسه، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لعبادة البشر، بل يطلب العبادة من البشر كي يعطي البشر؛ لأنّك حين تعبد الله فإنّك لا تعبد غيره، فقمّة الحريّة وكرامة الإنسان تكون بالعبوديّة لله وحده، كي لا يستعبده إنسان، “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!”، وقمّة الحريّة وكرامة الإنسان أن يكون إيمانه بأنّ الضّارّ والنّافع والمعطي والمانع والمحيي والمميت هو الله سبحانه وتعالى، وأنّ مالك الملك هو الله عزَّوجل وليس أحد يساويه من البشر. وقد ألحّ سيّدنا موسى عليه السَّلام على ربّه بالدّعاء ليقبل منهم التّوبة مع أنّ معصيتهم كانت كبيرة، مثل معصية إبليس الّذي جادل ربّه قائلاً: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ]الأعراف[ أمّا معصية آدم عليه السَّلام فلم تكن استكباراً؛ لأنّه لم يردّ الأمر على الآمر، بل عصى الله بضعفه ثمّ تاب، فشرع الله سبحانه وتعالى التّوبة لبني آدم عليه السَّلام أمّا بنو إسرائيل فإنّهم عصوا باستكبارهم حين عبدوا العجل الّذي صاغوه من الحليّ، فقال لهم سيّدنا موسى عليه السَّلام:﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ، والبارئ: يعني الخالق للخلق على غير مثال سبق، وبرا السّهم: يعني دقّق صنعه ونحته وسوّاه، وذلك مثل التّسوية بدقّة: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ]الحجر[.

وقد قال موسى لقومه: ﴿فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ، أي إلى خالقكم. وشرع لهم الكفّارة وهي أن يقتلوا أنفسهم كي تُقبل التّوبة منهم، وذلك بأن يقتل من لم يعبد العجل الّذي عبد العجل، ولم يطلب منهم الانتحار، وهذه كفّارتهم، فإذا فعلوا ذلك تاب عليهم ولا يُدخلهم النّار، فتاب الله عليهم برحمته وليس بأفعالهم. فالإنسان يدخل الجنّة برحمة الله وليس بعمله، جاء في الحديث: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمة وفضل»([1])، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ]النّجم[،  فالإنسان يحاسب على عمله، ولو لم يضع الله سبحانه وتعالى لنا الجنّة ثواباً للعمل الصّالح فإنّنا لا نستطيع إجباره، فبمجرّد أن جعل الله جلَّ جلاله الجنّة ثواباً للعمل الصّالح فهذا يعني أنّ الدّخول إلى الجنّة لا يكون إلّا برحمته سبحانه وتعالى، صحيح أنّ دخول الجنّة يكون بناء على العمل، لكن من رحمته تعالى أنّه جعل ثواب العمل الجنّة، ومن رحمته شرع لنا التّوبة من المعاصي، والإنسان حين يرتكب معصية لا بدّ من أن يكون هناك تشريع للتّوبة كي يتوب إلى الله عزَّوجل.

وهكذا أنعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل فشرع لهم التّوبة وحدّد لهم الكفّارة وقَبِل منهم التّوبة، فتاب عليهم، إنّه هو التّواب الرّحيم.

وهذه القصص لم يراعَ فيها التّسلسل الزّمنيّ، وإنّما هي مقاطع ومشاهد يلقي الله عزَّوجل للأمم والبشر من خلالها الضّوء على ممارساتِ بني إسرائيل وخروجهم عن الإيمان وعن النّعم الّتي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليهم.


([1]) مسند أحمد بن حنبل: مسند أبي هريرة رضي الله عنه الحديث رقم (7473).

وَإِذْ: معطوفة.

قالَ: فعل ماض.

مُوسى: فاعل والجملة مضاف إليه.

لِقَوْمِهِ: متعلقان بقال.

يا قَوْمِ: منادى مضاف منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم. والياء في محل جر بالإضافة.

إِنَّكُمْ: إن واسمها.

ظَلَمْتُمْ: فعل ماض وفاعل.

أَنْفُسَكُمْ: مفعول به والجملة في محل رفع خبر إن.

بِاتِّخاذِكُمُ: جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

الْعِجْلَ: مفعول به أول للمصدر اتخاذ.والمفعول الثاني محذوف تقديره باتخاذكم العجل معبودا أو ربا.

فَتُوبُوا: الفاء عاطفة على تقدير إذا كنتم فعلتم ذلك فتوبوا. توبوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل. والجملة معطوفة على جملة ظلمتم.

إِلى بارِئِكُمْ: متعلقان بتوبوا.

فَاقْتُلُوا: الفاء عاطفة والجملة معطوفة.

أَنْفُسَكُمْ: مفعول به.

ذلِكُمْ: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

خَيْرٌ: خبره.

لَكُمْ: متعلقان باسم التفضيل خير.

عِنْدَ: مفعول فيه ظرف مكان متعلق بخير. والجملة مستأنفة.

بارِئِكُمْ: مضاف إليه.

فَتابَ: الفاء عاطفة. تاب الجملة معطوفة.

عَلَيْكُمْ: متعلقان بالفعل.

إِنَّهُ: إن واسمها.

هُوَ: ضمير فصل.

التَّوَّابُ: خبر إن.

الرَّحِيمُ: خبر ثان لإن. والجملة مستأنفة.

فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ليقتل البريء منكم المجرم ذلِكُمْ القتل، وقتل منهم نحو سبعين ألفاً

بارِئِكُمْ: مبدعكم ومحدثكم

فَتابَ: قبل توبتكم.