الآية رقم (43) - وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ

وهذه ثلاثة أوامر موجّهة إلى شعب بني إسرائيل الّذين عاصروا تنزيل القرآن الكريم في جزيرة العرب، وهي رسالة موجّهة للنّاس جميعاً. وكلّ الدّيانات السّماويّة جاءت بالصّلاة والزكاة، ونجد ذلك في مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا   ]طه: من الآية 132[، وفي دعاء إبراهيم الّذي ورد في القرآن الكريم: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي  ]إبراهيم: من الآية 40[، وفي قول سيّدنا عيسى عليه السَّلام كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا    ]مريم: من الآية 31[. والصّلاة والزكاة ركنان أساسيّان من أركان الإسلام، وأركان الإسلام خمسة كما ورد في الحديث الصحيح: «بُني الإسلامُ على خمس: شهادة أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقامِ الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ، وصوم رمضان»([1])، أي أنّ الأركان الّتي بني عليها الإسلام هي هذه الخمسة وليس الإسلام هو هذه الأركان فقط. فالأركان هي الأعمدة وليست هي البناء، البناء هو البناء، ولا يتمّ البناء من غير أركان، لكن الأعمدة ليست هي البناء، فالبناء أكبر وأشمل، كذلك الإسلام أوسع وأشمل من الأركان.

والعبادة أشمل من الصّلاة والصّوم والزكاة والحجّ، فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ    ]الذّاريات[، فلا يمكن أن نكون قد خُلِقنا فقط للصّلاة والزكاة والصّوم والحجّ، فنحن نأكل ونفكّر ونتعلّم ونعمل ونتزوّج ونتناسل ونحبّ ونبغض ونسير على الأرض. والعبادة هي كلّ عمل يعود على الغير بالخير. وهي نفع الفرد والمجتمع والبشريّة كلّها، فالعبادة عطاء للبشريّة، والعابد هو من يعطي عطاءً خيّراً لمجتمعه، إذا كانت العبادة والطّاعة صحيحة كما أمر الله سبحانه وتعالى. ولا تنظروا إلى تحريف البشر، ولا تنظروا إلى الانحراف والشّواذ بل انظروا إلى الأصل.

وأركان الإسلام هي أركان كلّ الشّرائع السّماويّة، والصّلاة والزكاة متلازمان دائماً؛ لأنّ الصّلاة صلة مع الله، والزكاة صلة مع خلق الله. فأرني أثر صلاتك في صلتك، وأرني أثر صلاتك في مجتمعك. وأثر الصّلاة يكون بالزكاة؛ لأنّ الصّدقة برهان على الإيمان. وهناك من إذا قلت له: صلّ أربع ركعات يصلّي أربعين، وهي أسهل عليه من الزكاة والصّدقة، وإن قلت له: تصدّق على الفقراء، أحسن إلى النّاس، أعط من مالك للمحتاجين، ابنِ مبرّة مثلاً، تجده لا يفعل من ذلك شيئاً، فهذا هو البرهان على صدق الإيمان من عدمه. والصّلاة هي دعاء وصلة مع الله سبحانه وتعالى، والزكاة هي لاستيعاب حركة الإنسان في الحياة، وهي عمل من أجل الغير، وذلك حين تعمل وأنت تنوي أن تجني مالاً تقتطع منه جزءاً للزكاة. فالزكاة حركة في المجتمع، ودعوة للإصلاح والتّكافل الاجتماعيّ؛ لأنّه اقتطاع جزء من الوقت للعمل من أجل الغير. وكذلك الصّلاة فهي اقتطاع جزء من الوقت للدّعاء والتّعبّد.

وبالنّتيجة: الصّلاة والزكاة ركنان أساسيّان في الحياة الإنسانيّة لتستمرّ الحياة بصلات صحيحة مع البشر، وبصلات قويمة مع ربّ البشر.

﴿وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ: وقد نتساءل هنا لماذا خصّ الرّكوع مرّة أخرى مع أنّ الصّلاة تشتمل على الرّكوع؟ الجواب: أنّ الرّكوع هنا بمعنى الخضوع العامّ لله سبحانه وتعالى، كما يأتي السّجود أحياناً بمعنى التّعظيم والتّحيّة والامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى.

أمّا المعنى الاصطلاحيّ للسّجود فهو وضع الجبهة على الأرض في الصّلاة، وأمّا المعنى الاصطلاحيّ للرّكوع فهو الانحناء في الصّلاة. والرّاكعون هم الملتزمون الطّائعون لأوامر الله سبحانه وتعالى والممتثلون لطاعته. وهذا ليس خطاباً موجّهاً إلى بني إسرائيل وحدهم، بل هو موجّه للنّاس جميعاً، فخصوصيّة السّبب لا تنفي عموم المعنى.


(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم «بني الإسلام على خمس»، الحديث رقم (8).

وَأَقِيمُوا: فعل أمر مبني على حذف النون والواو الفاعل. والجملة معطوفة على ما قبلها.

الصَّلاةَ: مفعول به.

وَآتُوا الزَّكاةَ: إعرابها مثل أقيموا الصلاة.

وَارْكَعُوا: فعل أمر وفاعل.

مَعَ: ظرف زمان متعلق باركعوا.

الرَّاكِعِينَ: مضاف إليه مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوضاً عن التنوين في الاسم المفرد.

(اركعوا): معطوفة.

إطلاق الركوع على الصلاة في قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: مجاز مرسل، من أنواع تسمية الكل باسم الجزء.