الآية رقم (44) - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

خصوصيّة السّبب في هذه الآية لبني إسرائيل الّذين كانوا يستفتحون على مشركي العرب، ويقولون لهم: إنّ نبيّاً سيأتي وسيؤمنون به وسيقتلونهم قتل عادٍ وإرم. ولم يكونوا يعلمون أنّ النّبيّ لن يكون منهم، بل سيأتي من العرب، فلمّا جاءهم كفروا به وهم الّذين كانوا يأمرون النّاس بالبرّ.

أمّا عموميّة المعنى فهي للنّاس كلّهم، ولكلّ الدّعاة إلى الخير، من علماء وخطباء ومشايخ وواعظين… فعليهم أن يلتزموا بما يدعون النّاس إليه، وكما قال الشّاعر:

لا تنهَ عن خُلُق وتأتي مثله                     . عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم
.

أمّا عالِـم الرّياضيّات والفيزياء والكيمياء والفلك… فإنّ النّاس يأخذون عنهم مادّتهم ولا يسألون عن سلوكهم، إلّا عالِـم الدّين الّذي إذا انفصل سلوكه عن قوله سقطت دعوته. وكما قال الشّاعر:

يا أيّها الرّجل المعلّم غيره
تصفُ الدّواء لذي السّقام وذي الضَّنى                     .
هلّا لنفسك كان ذا التّعليم
كيما يصحّ به وأنت سقيم
.

 

فمن يصعد المنبر وينهى عن الغيبة ويأتي بأدلّة قرآنيَّة ويتلو قول الله: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ   ]الحجرات: من الآية 12[، ثمّ بعد دقائق يخرج ويقول: فلان فعل كذا، وفلان قال كذا.. فيكون سلوكه قد خالف قوله. والدّين كلمة تُقال وسلوك يفعل، فإذا انفصل السّلوك عن الكلمة سقطت الدّعوة. والدّين بالأسوة، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]الأحزاب[، فإذا لم تكن هناك أسوة سلوكيّة فلن تكون هناك كلمة دعويّة. ولن يكون هناك أيّ مصلح في أيّ زمان ما لم يكن أخلاقيّاً ومصدر أسوة سلوكيّة. فمن يحدّث النّاس بكلام ويفعل غير ما يقول، لا يمكن أن يكون داعية، مثل الّذي يتحدّث عن الميراث ويأكل ميراث غيره، ويقول: لا تشربوا الخمر وهو يشربه، وينهى عن النّميمة ويمشي بها… والبرّ هو جوامع الخير كلّه، بكلّ الاتّجاهات وبكلّ الطّرق الّتي تؤدّي إلى الخير.

﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ: والمقصود هو كلّ الكتب السّماويّة الّتي لم تأت إلّا رحمة للبشريّة ولهدايتهم. والهداية لا تكون إلّا بالأسوة السّلوكيّة، ولا بدّ من اقتران دعوة الخير بالسّلوك العمليّ، فلا تقل: خذوا بأقوالي ولا تأخذوا بأفعالي واتركوا النّار للحطب. بل لا بدّ لدعوة الخير والإصلاح من أن تقترن بالعمل، وإلّا ضاعت الدّعوة تماماً.

أَتَأْمُرُونَ: الهمزة للاستفهام والتوبيخ. تأمرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل.

النَّاسَ: مفعول به.

بِالْبِرِّ: متعلقان بتأمرون.

وَتَنْسَوْنَ: الجملة معطوفة على تأمرون لا محل لها مثلها مستأنفة.

أَنْفُسَكُمْ: مفعول به.

وَأَنْتُمْ: الواو واو الحال، أنتم ضمير منفصل مبتدأ

تَتْلُونَ: فعل مضارع وفاعل وجملة تتلون خبر المبتدأ والجملة الاسمية أنتم تتلون في محل نصب حال.

الْكِتابَ: مفعول به.

أَفَلا: الهمزة للاستفهام الإنكاري، الفاء عاطفة، لا نافية.

تَعْقِلُونَ: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة معطوفة.

أَتَأْمُرُونَ الاستفهام للتوبيخ.

البر: الطاعة والخير والعمل الصالح

وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ: تتركونها فلا تأمرونها به

الْكِتابَ: التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل.

وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ: فيه تقريع وتبكيت.

أَفَلا تَعْقِلُونَ: سوء فعلكم فترجعوا “استفهام إنكاري وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الترك.”