الآية رقم (6) - مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ

فالوسوسة كما هي من الجنّ هي أيضاً من الإنس، وسوسة الجنّ هي مجرّد تزيين الأمر، أمّا وسوسة الإنس فهي أشدّ؛ لأنّ الموسوِس لك من الإنس يُشاركك ما يُزيّن لك به ويدفعك له ويتفنّن في أن تشاركه الإثم والمعصية.

﴿الْجِنَّةِ﴾: جمع جِنّيّ، وكلمة جنّ: تَدُلّ على الاستتار والاختفاء، وهم مخلوقون من مارجٍ من نارٍ، قادرون على التّشكّل بأيّة صورةٍ أرادوا، ولهم ذرّيةٌ، وفيهم الذّكر والأنثى، وهم مكلّفون كالبشر، سُـمّوا بالجنّ؛ لأنّهم مستورون عن أعين البشر، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: من الآية 27]، فهم يروننا ولا نراهم، ويمتازون بخفّة الحركة وسرعتها، قانون الجنّ أخفّ من قانون الإنس، وكلّ جنسٍ يستمدّ قانونه من جرثومة تكوينه الأولى، فالإنسان مخلوقٌ من الطّين، والجنّ من النّار، والجنّ فيهم المؤمن والكافر، الطّائع والعاصي، والمتمرّدون من عالم الجنّ هم الـمَرَدة الشّياطين، فكلّ متمرّدٍ على منهج الله سبحانه وتعالى  نسمّيه شيطاناً، أكان من الجنّ أم من الإنس، طائع الجنّ مثل طائع البشر، وعاصي الجنّ مثل عاصي البشر، ومن هؤلاء وهؤلاء مردةٌ، بل شياطين الإنس أشدّ تأثيراً، وأحياناً يكون شياطين الإنس داخل الإنسان، وهو ما تزيّن له نفسه الأمّارة بالسّوء.

الآية رقم (1) - قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ

﴿أَعُوذُ﴾: ألجأ وأعتصم وأستجير.

والخطاب هنا للنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والـمُستَعاذ به هو ربّ الفلق تبارك وتعالى، وهناك أربعة أمورٍ نستعيذ من شرورها: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.

﴿الْفَلَقِ﴾: شقّ الشّيء وفصل بعضه عن بعضٍ.

وهو إمّا الصّبح الّذي يُفلَق نوره، أو يفلِق نورُه ظلمةَ اللّيل، والنّور هو أمّ الهداية، وفيه نسير على هدىً وبصيرةٍ، وإمّا أنّه ما ينفلق عنه الوجود والحياة، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ [الأنعام: من الآية 95]، فربّ الفلق هو ربّ الوجود الّذي أبدع وخلق وذرأ وبرأ، وهو الأحقّ والأولى أن نستعيذ به ونلجأ إليه.

الآية رقم (2) - مِن شَرِّ مَا خَلَقَ

﴿مِن شَرِّ﴾: هذا يعني أنّ بعضاً من المخلوقات الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى فيها شرٌّ، حتّى لو كان فيها جانبٌ من جوانب الخير، فما دام الشّيء موجوداً فلا يكون خيراً محضاً ولا شرّاً محضاً، ففي زاويةٍ من زواياه قد يكون خيراً، وفي زاويةٍ أخرى شرّاً، فالله سبحانه وتعالى يعلّمنا أن نستعيذ من الشّرّ لكي تبقى لنا جوانب الخير، وأن نستعيذ به وحده لا بغيره؛ لأنّه الوحيد سبحانه وتعالى القادر أن يعصمنا وأن يعيذنا من هذه الشّرور.

الآية رقم (3) - وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ

﴿غَاسِقٍ﴾: الغاسق: اللّيل الّذي اشتدّ ظلامه، وتأتي بمعنى دافق.

﴿إِذَا وَقَبَ﴾: دخل بظلمته في كلّ شيءٍ، فقد يستر عن الإنسان مظانّ الشّرّ، فلا يستطيع أن يتّقيها، كوحشٍ مفترسٍ، أو عدوٍّ متربّصٍ، أو غير ذلك من مكائد ومؤامراتٍ باللّيل، فهذه تُكشَف بالنّهار، فقوله: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ لا بدّ منه؛ لأنّنا لا قوّة لنا على دفع هذه الأخطار عنّا.

والأصل في وقب؛ أي النّقرة في الجبل نتيجة المطر ينزل بشدّةٍ فيصنع حفرةً، ولا يحدث ذلك إلّا إذا كان المطر غزيراً وشديداً ومُستمرّاً.

الآية رقم (4) - وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ

﴿النَّفَّاثَاتِ﴾: كلمة تُشعر بالتّأنيث، لذلك فسّروها بأنّها السّاحرات، أو النّفس السّاحرة، أكانت لرجلٍ أم امرأةٍ، هنا وقف بعض النّاس موقفاً من مسألتين: المسألة الأولى: السّحر، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾، والثّانية: الحسد، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾، فأنكروهما؛ لأنّهما لا تخضعان لقضيّةٍ علميّةٍ عقليّةٍ عندهم، وكأنّهم أرادوا أن يبرّروا قضايا الدّين كلّها بصورٍ محسوسةٍ، تدخل تحت نطاق التّجربة، مع أنّ مسائل العقيدة لا تدخل ضمن نطاق التّجريب، وليست المسائل كلّها يمكن أن تُخضع للتّجارب، نقول: ما دمت قد تديّنت وآمنت بإلهٍ له من الصّفات كذا وكذا، فلا تجعل عقلك حجّةً على ما خلق هذا الإله، فمن هذه المخلوقات ما لا تعرفه أنت، ولا يقع تحت حواسّك، والعقل يُطمئنك على سلامة هذه القضيّة؛ لأنّ كثيراً من الأشياء كانت موجودةً، لكنّها لم تكن تدخل تحت نطاق العقل والتّجربة، ثمّ لـمّا أذن الله سبحانه وتعالى  لها بالظّهور عرفها العقل وخضعت للتّجربة، كما رأينا في ظاهرة الكهرباء، والميكروبات وغيرهما من الأمور الّتي لم يكن أحدٌ يصدّق وجودها، فلماذا لا يكون الغيب في الماضي الّذي صار مشهديّاً الآن وسيلةً للمؤمن في أن يكون حُجّةً في الحُكم على الأشياء وعدم وجودها، فنقول للّذين ينكرون السّحر: إنكاركم هذا يُصادم النّصّ القرآنيّ والأحاديث الصّحيحة، ولا اجتهاد مع النّصّ، فالعقل هنا لتقريب الأشياء، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة].

الآية رقم (5) - وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ

﴿حَاسِدٍ﴾: الحسد هو تمنّي زوال النّعمة من المحسود.

والعين حقٌّ كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أعطى الله سبحانه وتعالى بعض النّاس أسلحةً كالأسلحة المادّيّة، المسدس أو البندقيّة أو السّيف، يستطيعون استخدامها ضدّ من يريدون، لكن ما الّذي يحجب الإنسان عن الاعتداء على غيره واستخدام هذه الأسلحة؟ الجواب: يحجبه إيمانه بمنهج الله سبحانه وتعالى، كذلك الحاسد عنده سلاح الحسد، ومن الممكن أن يستخدمه، والسّؤال: هل الحسد مُتعلّقٌ بإرادة الحاسد، أو هو أمرٌ قاهرٌ فوق إرادة الحاسد؟ هنا تبرز لنا وظيفة التّكليف الإلهيّ، لذلك نقول للإنسان الّذي يحقد على النّعم، وعلى النّاس الّذين يمتلكونها: إنّ هذا الحقد هو اختياريٌّ وليس مفروضاً، لذلك الحاسد لا يكون مؤمناً؛ لأنّه لو فهم أنّ العطاء كلّه من الله سبحانه وتعالى ما حسد وما حقد.

كلّ العداوات قد تُرجى سلامتها   إلَّا عداوة من عاداكَ من حسد

الآية رقم (1) - قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ

﴿أَعُوذُ﴾: الاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ، وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلّا بمن هو أقوى ممّن يريد أن ينالك بشرٍّ، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحونٌ بالإيمان فتلجأ إلى من خلقك وخلق ذلك الشّيطان، عندئذٍ لا بدّ أن يهرب الشّيطان من طريقك؛ لأنّه يعلم أنّك تلجأ إلى القويّ القادر.

﴿النَّاسِ﴾: هم الجنس المنحدر من آدم عليه السَّلام إلى أن تقوم السّاعة.

وقف بعض المستشرقين عند كلمة: ﴿النَّاسِ﴾، وأرادوا أن يُدخلونا من خلالها في متاهات التّشكيك بالقرآن الكريم، وقالوا: إنّ القرآن الكريم فيه تكريرٌ لا لزوم له، فلماذا أعاد كلمة ﴿النَّاسِ﴾ ثلاث مرّات؟ هم فهموا أنّ المعنى لكلمة: ﴿النَّاسِ﴾في كلّ آيةٍ من آيات هذه السّورة واحدٌ؛ لأنّهم لم يتمتّعوا بملكة اللّغة العربيّة، ولم يلتفتوا لمعنى كلمة ﴿النَّاسِ﴾ في كلّ موقعٍ، هو مختلفٌ وضروريٌّ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لكلّ كلمةٍ في القرآن الكريم أن تكون جاذبةً لمعناها، وأن يكون كلّ معنىً جاذباً للكلمة المناسبة له، فكلمة ﴿النَّاسِ﴾ عامّةٌ حين يتعلّق الأمر بحُكمٍ عامٍّ، وتكون خاصّةً في مواضع أخرى، كقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النّساء: من الآية 54]، فالمقصود بها هنا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

والاستقراء الدّقيق لسورة (النَّاسِ) يدلّ على أنّ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ إعلانٌ للرّبوبيّة للخلق كلّهم، ونحن نستعيذ به، فهو الرّبّ الّذي أوجد وأعطى الصّفات لكلّ مخلوقٍ، فلا يحسب أنّه يستطيع أن يشرد منه سبحانه وتعالى؛ لأنّه:

الآية رقم (2) - مَلِكِ النَّاسِ

أي يملك الخلق كلّهم، وجعل لهم الاختيار في أشياء، ومنع عنهم الاختيار في أشياء، ولم يقل: (مليك النّاس)، فهذا القول يعني أنّهم مجبورون على الإيمان، ولا يسعهم غير هذا، ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعلهم مختارين في الأمور الّتي هي مناط التّكليف، وغير مختارين في أمورٍ ليست محلّاً لها.

هكذا نجد الفرق بين أن يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وبين أن يقول: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، النّاس في الآية الأولى هم المتعلّقون بربوبيّة الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الثّانية هم مملوكون لله جلَّ جلاله، فلا أحد يخرج عن قدرة الله سبحانه وتعالى في الأمور القهريّة، وتأتي الثّالثة:

الآية رقم (3) - إِلَهِ النَّاسِ

﴿إِلَٰهِ النَّاسِ﴾: الإله هو المعبود بحقٍّ، وهو الّذي يقيك ممّا سيأتي في الآية الرّابعة.

الآية رقم (2) - اللَّهُ الصَّمَدُ

﴿الصَّمَدُ﴾: للصّمد في اللّغة معنيان، أحدهما: أنّه لا جوف له؛ أي أنّه ليس جسماً ولا جوهراً، والمعنى الثّاني: هو السّيّد الّذي يُقصَد في الحوائج.

فالصّمد هو المقصود في الحوائج، وهو السّيّد الّذي كَمُل في سؤدده.

الآية رقم (4) - مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ

﴿الْوَسْوَاسِ﴾: هو الذي يزيّن لك أفعال الشّرّ في أُذُنك.

﴿الْخَنَّاسِ﴾: الخنوس: الرّجوع والتّأخُّر، فهو يخنس ويتراجع إذا ذُكِر الله سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى سمّى الشّيطان الوسواس الخنّاس؛ لأنّه يوسوس للنّاس، لكنّه يخنس ويختفي إن ذُكر الله سبحانه وتعالى، وينفرد بالإنسان حين يراه منعزلاً عن ربّه.

الآية رقم (3) - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ

﴿لَمْ يَلِدْ﴾: لأنّه لـم يفتقر إلى ما يُعينه، ولأنّه لا مُجانسة بينه وبين غيره، فهذا نفيٌ للشبه والـمُجانسة.

﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾: فهو قديمٌ غير حادثٍ.

وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النّساء: من الآية 171]، فالله جلَّ جلاله تنزّه عن الصّاحبة والولد، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشّورى: من الآية 11]..

الآية رقم (5) - الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ

وهو يوسوس في صدور النّاس الموسوَس إليهم.

هكذا نجد أنّ كلمة ﴿النَّاسِ﴾: جاءت للتّعبير عن المربوبين والمملوكين والمألوهين والموسوَس إليهم، وهذا من بلاغة اللّغة العربيّة وروعتها، وأنّ من يوسوس قد يكون من الجنّ وقد يكون من الإنس، فليس هناك تكريرٌ، بل جاءت الكلمة الواحدة بمعنىً يناسب كلّ موضعٍ جاءت فيه.

﴿يُوَسْوِسُ﴾: الوسوسة: لغةً هي الصّوت الّذي يُغري بالكلام المعسول، ولذلك أُخذت كلمة وسوسة الشّيطان من وسوسة حليّ الذّهب، له رنينٌ، يجذب الأسماع ويُغري للتّطلّع إليه، كأنّ الله سبحانه وتعالى يُحذّرنا من أنّ الشّيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتّزيين، فإذا سهوت عن الله سبحانه وتعالى اجترأ عليك ووسوس لك، وإذا ذكرت الله سبحانه وتعالى خنس وضعُف، فهو لا يدخل مع الله جلَّ جلاله في معركةٍ، وإنّما يدخل مع خلق الله سبحانه وتعالى الّذين ينسونه جلَّ جلاله ويبتعدون عنه سبحانه.

﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾: أي في قلوبهم وفي نفوسهم وفي إرادتهم وفي عقولهم، فلا يكون علانيةً كما هي وسوسة النّاس للنّاس.

الآية رقم (4) - وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ

﴿كُفُوًا﴾: الكفؤ: النّظير أو الشّبيه أو المثيل.

فالله سبحانه وتعالى ليس له شبيهٌ ولا نظيرٌ ولا مثيلٌ ولا ندٌّ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فليس هناك سميٌّ يساميه في صفات الكمال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، وهو واحدٌ في قدرته، واحدٌ في قوّته، واحدٌ في خلقه، واحدٌ في ذاته، واحدٌ في صفاته، لا ندّ له ولا شريك معه.

الآية رقم (2) - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا

﴿أَفْوَاجًا﴾: جماعاتٍ كثيفة.

﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ﴾: هل النّاس كلّهم دخلوا في دين الله جلَّ جلاله؟ الجواب: لا بالتّأكيد، ليس هذا هو المقصود، لذلك عندما يقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمرتُ أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويُقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله»([1])، فليس المقصود النّاس كلّهم سيُقاتلهم، بل الّذين يقاتلونه فقط.

 


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾، الحديث رقم (25).

الآية رقم (3) - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا

﴿فَسَبِّحْ﴾: أي نزِّه الله سبحانه وتعالى، وصَلِّ له حامداً على نِعَمه.

﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾: اسأله المغفرة لك ولمن تبعك، وطلب الاستغفار من النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان لترك الأفضل، وليقتدي به غيره، ولم يكن بسبب ارتكاب معصيةٍ أو ذنبٍ.

عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُكثر من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه»، قالت: فقلت: يا رسول الله، أراك تُكثر من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه؟ فقال -عليه الصّلاة والسّلام-: «أخبرني ربّي أنّي سأرى علامةً في أمّتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ﴾ فتح مكة، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾»([1]).

الآية رقم (1) - تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ

﴿تَبَّتْ﴾: التّبّ: تعني القطع والهلاك والبوار.

﴿يَدَا﴾: اليد كنايةٌ عن الإنسان كلّه؛ لأنّ أغلب الأعمال البشريّة يباشرها المرء بيديه، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [النّساء: من الآية 182].

﴿أَبِي لَهَبٍ﴾: عمّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمه عبد العزّى بن عبد المطّلب، سُـمّيَ أبا لهبٍ: لإشراق وجهه، وذُكِر بلقبه هذا للإشارة إلى أنّ مآله إلى نارٍ ذات لهب، فوافقت حال كُنيته.

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ هذا ليس دعاءً من الله جلَّ جلاله؛ لأنّ أمره تبارك وتعالى مُجابٌ ولا يحتاج إلى من يُجيب، فعندما يكون من الله سبحانه وتعالى فهو حُكمٌ متحقّقٌ وواقعٌ، دليل ذلك قول الحقّ سبحانه وتعالى مرّةً ثانيةً: ﴿وَتَبَّ﴾ ؛ أي قد حصل بالفعل.

الآية رقم (2) - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ

بعد التّبّ المال والكَسب؛ لأنّه كان يستعلي بهما، فكان يقول: “إن كان ما يقول ابن أخي حقّاً، فأنا أفتدي بمالي وولدي”، فردّ الله سبحانه وتعالى  عليه هذه المقولة، بأنّ ماله وولده لن يُغنيا عنه شيئاً، ولن يدفعا عنه عذاب الله سبحانه وتعالى ، وللعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما: بأنّ المال هو الأصل الّذي يمتلكه الإنسان أو الميراث، ثمّ تنشأ عنه المكاسب من الأرباح، كأن يكون عنده بستانٌ وشجرٌ فيثمر، أو حيواناتٌ فتلد، والآخر: أنّ الكسب يعني الولد لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إنّ من أطيب ما أكل الرّجل من كسبه وولده من كسبه»([1]).

ثمّ تنقلنا الآيات إلى جزاء الآخرة.

 


([1]) سنن أبي داوود: كتاب الإجارة، باب في الرّجل يأكل من مال ولده، الحديث رقم (3528).

الآية رقم (3) - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ

﴿سَيَصْلَى نَارًا﴾: سيجد حرَّها ويذوق وبالـها.

﴿ذَاتَ لَهَبٍ﴾: لهب النّار: ما يسطع منها عند اشتعالها.

هذه المشاهد لا تُرى إلّا في الدّار الآخرة، فجعل صدق ما نراه في الدّنيا دليلاً على صدق ما لم نره من أمور الآخرة من الغيب، ولأنّ الحديث هنا عن أمور الآخرة أتى الإخبار بالسّين: ﴿سَيَصْلَى نَارًا﴾ في المستقبل، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنّه قدّم الأمر الـمُدرك الـمُحسوس على الأمر الغيبيّ ليكون دليلاً عليه، فقال: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ هذا في الدّنيا، وفي الآخرة قال سبحانه وتعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾.

الآية رقم (4) - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ

﴿وَامْرَأَتُهُ﴾: هي من سادات قريشٍ، وكنيتها: أمّ جميلٍ، أروى بنت حربٍ بنت أميّة، أخت أبي سفيان.

ينتقل الحديث إلى زوجة أبي لهبٍ، حيث كانت لها منزلةٌ بين قومها، ولكنّها لم تكتفِ بدور زوجها في محاربة الرّسول الكريم ودعوته، بل لعبت دوراً كبيراً في مُصادمة الدّعوة وإيذاء النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، معتمدةً بذلك على مال زوجها وعلى أخيها الّذي كان من سادة القوم، وعزّ عليها إلّا أن تقوم هي بالذّات بالحقد والحسد للنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾: قال العلماء في تفسير هذه الآية: إنّها على الحقيقة، فقد كانت تحمل الحطب وترميه في طريق الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وتؤذيه به، وكان أبو لهبٍ جاراً للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال بعض العلماء: إنّ الحطب هنا كنايةٌ عن النّميمة، فكانت أروى بالفعل تمشي بين قومها بالنّميمة، وكأنّها تحمل الحطب الّذي تحرق به نفسها والنّاس من حولها، وقد كانت مشهورةً أيضاً بين القوم بالحسد والحقد والنّميمة، وهي من أهمّ أسباب إيقاد نار العداوة بين النّاس.