الآية رقم (16) - وَأَكِيدُ كَيْدًا

هذا الأداء القرآنيّ يسمّونه المشاكلة اللّفظيّة، وهي في اللّغة أن تأتي بلفظٍ على معنى ليس هو عطاء اللّفظ في اللّغة، ولكنّه جاء باللّفظ لوقوعه في صحبة غيره.

الآية رقم (17) - فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا

لا تستعجل يا محمّد الانتقام منهم؛ لأنّه آتٍ لا محالة، ولو أراد الله سبحانه وتعالى ذلك مباشرةً لفعل، لكنّه أراد سبحانه وتعالى أن يمهلهم؛ ليتحقّق التّمحيص فلا يثبت على الإيمان إلّا الأقوياء القادرون على تحمّل أعباء الإيمان.

﴿أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾: أي إمهالاً يسيراً، لن يطول.

وإذا استقرأنا التّاريخ نجد هذا الإمهال لم يطل، إنّما كان لتربية الإيمان وتعليم الصّبر على الشّدائد، وسرعان ما جاء نصر الله سبحانه وتعالى وتغيّرت أحوال العالم بهذه البعثة المحمّديّة، فعمّ النّور أرجاء الأرض وزهق الباطل.

الآية رقم (5) - فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ

فلينظر الإنسان في أوّل نشأته نظرة تفكّرٍ واعتبارٍ، من أيّ شيءٍ خلقه الله سبحانه وتعالى؟

الآية رقم (6) - خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ

خلق الإنسان أمرٌ واقعٌ لا شكّ فيه، وهو سيّد الكون المتميّز على أجناس الوجود كلّها، لذلك دعاه الله سبحانه وتعالى إلى النّظر والتّأمّل والتّفكّر في مسألة الخلق بما أعطاه من العقل وبما وهبه من الفكر، ليصل إلى الحقيقة.

لم يقل سبحانه وتعالى: (ماءٌ مدفوقٌ)، وإنّما وصفه بأنّه دافقٌ؛ أي بطبيعته له هذه الخاصّيّة، فهو ينزل من غير إرادةٍ ولا خيارٍ، ولا يمكن منعه، وبعد ذلك يتّصل ماء الرّجل ببويضة المرأة لتنشأ الخليّة -كما يقولون في علم الأجنّة- هذه الخليّة تنقسم بصورةٍ عجيبةٍ وليس لها عقلٌ ولا إرادةٌ ولا إدراكٌ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى هداها إلى المسار الّذي تسير إليه بدقّةٍ متناهيةٍ، ثمّ تتجمّع بعض هذه الخلايا لتكوّن العظام، وبعضها الآخر يكوّن العضلات، وبعضها الآخر يكوّن الأعضاء والجوارح.. وهكذا، ولا يمكن لهذه الخلايا أن تفعل ذلك إلّا بوجود خالقٍ قادرٍ مدبّرٍ حكيمٍ، (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) [طه]، هدى كلّ خليةٍ إلى مهمّتها في التّكوين البديع.

الآية رقم (7) - يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ

هذه الحقائق الّتي جاءت في القرآن الكريم منذ ألفٍ وأربعمئة عامٍ ونيّف أثبتها العلم الحديث، وهو أنّ خلق الإنسان يأتي من ماءٍ دافقٍ يخرج من بين الصّلب والتّرائب.

﴿الصُّلْبِ﴾: أي عظام ظهر الرّجل.

﴿وَالتَّرَائِبِ﴾: عظام صدر المرأة، وموضع القلادة منها.

لكنّ الخالق سبحانه وتعالى إذا أراد أن يخلق بلا أسبابٍ وبلا ماءٍ دافقٍ ولا صُلبٍ ولا ترائبٍ لَفَعَل، بدليل أنّه خلق الأب الأصيل آدم عليه السَّلام  من عدمٍ من غير أبٍ ولا أمٍّ، ومنه خلق جميع صور الخلق المحتملة، وخلق جمهرة النّاس من أبٍ وأمٍّ، وخلق سيّدنا عيسى عليه السَّلام  من أمٍّ بلا أبٍ، وخلق حوّاء من أبٍ بلا أمٍّ، وبعد ذلك قد يوجد الأب والأمّ ولا يأتي منهما نسلٌ، إذاً المسألة ليست قائمةً على الأسباب، إنّما هي قدرة المسبِّب جلّ وعلا، قال تبارك وتعالى: ﴿لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشّورى].

الآية رقم (8) - إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ

انتقل الكلام إلى يوم البعث، فما دام أثبت له العظمة في التّكوين والمواهب والـمَلَكات وهو في أصله ماءٌ مهينٌ، فهذا مُنتهى العناية والاهتمام، ولا بدّ أن يكون هناك مقابلٌ، وقلنا: إنّ السّورة جمعت قوسَي الوجود: الخلق الأوّل في الدّنيا والإعادة في الآخرة، فالدّنيا مرحلةٌ قصيرةٌ مطمورةٌ في حسابك وفي حساب الزّمن، وهي ليست الغاية وإنّما الوسيلة إلى غايةٍ أعظم وأبقى، وإذا كانت عناية الخالق بالخلق في الدّنيا كما وصفنا، فما بالك بعنايته سبحانه بخلقه في الآخرة؟ لذلك نجد أنّ الحديث عن الإيجاد الأوّل عاد إلى الإيجاد الآخر، فالإنسان لم يُخلَق للدّنيا، إنّما خُلِق ليُنعّم بعناية خالقه ويأنس به ويسير على منهجه.

ومسألة الإعادة بعد الموت مسألةٌ ممكنةٌ، فإحياء الموتى يوم القيامة ما هو إلّا كَدَورة الماء الّتي نراها في الكون.

الآية رقم (9) - يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

﴿تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾: تُمتحن القلوب وتُختَبر، ويُعرَف ما فيها من العقائد والنيّات، فتنكشف وتظهر.

فالحساب حساب عليمٍ بصيرٍ لا يغفل ولا ينام ولا يعزب عن عمله مثقال ذرّةٍ من أعمالنا، فإذا كانت الأمور الّتي أخفاها الإنسان وأسرّها ستنكشف، فما بالك بالأمور الّتي أعلنها وجهر بها؟

الآية رقم (10) - فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ

هذا الإنسان ليس له عند البعث أيّ قوّةٍ، فقد تخلّى عنه ماله وجاهه وخلّانه وسلطانه، فليس له ناصرٌ ينصره أو يؤيّده، ولا مدافعٌ يُدافع عنه أو يحميه في ذلك اليوم.

الآية رقم (11) - وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ

﴿ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ : الرّجع: المطر، والمطر مظهرٌ من مظاهر دورة المياه في الكون، ما بين تبخّرٍ من البحار وتكوّن السّحب في السّماء، ثمّ نزوله مرّةً أخرى، فهو يرجع مرّةً أخرى، ونحن لا نستفيد من الماء إلّا في حالة نزوله ورجوعه من السّماء إلى الأرض، ففي هذه الحالة ينزل عذباً صالحاً للشّرب وريّ المزروعات، فالقادر على الرّجع هو الله سبحانه وتعالى  القادر على إرجاع الإنسان بعد الموت، لذلك عندما نقرأ في سورة (الذّاريات) قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذّاريات]، نجد أنّه سبحانه وتعالى جعل دورة الماء في الكون من أوّلها إلى آخرها دليلاً على قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ ؛ أي القيامة حقٌّ، لكن لماذا دورة الماء بالذّات؟ قال العلماء؛ لأنّ دورة الماء يشهدها الجميع من أوّلها إلى آخرها، فالماء الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى  في الكون لم يزد ولم ينقص، إنّما يدور في الكون.

الآية رقم (1) - وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ

الواو: واو القسم، فهنا يُقسم الله سبحانه وتعالى  بالسّماء والطّارق، وقد مرّ معنا معنى السّماء في اللّغة: بأنّها كلّ ما علاك فأظلّك، أمّا من حيث بناء السّماء فهي السّماء ذات العمد الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى  سقفاً للأرض كلّها، أمّا السّماء الدّنيا فهي فوق ذلك ثابتةٌ محفوظةٌ كما أرادها الله سبحانه وتعالى  بناءً مُحكماً لا نعرف ماهيّته ولا كيفيّته، ولو أراد الله سبحانه وتعالى  أن نعرفه لأخبرنا، لكنّ الله عزَّ وجل أراد أن يكون غيباً لا يقع تحت إدراكنا ولا تجربتنا، ويكفي حين يقول الله سبحانه وتعالى  كلمة (السّماء) أن نستحضر في أذهاننا مدلول هذه الكلمة.

الآية رقم (12) - وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ

﴿الصَّدْعِ﴾: أي أنّها تتصدّع وتتشقّق ليخرج منها النّبات، فما أشبه الرّجع بالماء الدّافق، وما أشبه الأرض ذات الصّدع بالرّحم الّذي يستقبل الماء الدّافق، فالحياة ما هي إلّا عبارةٌ عن مجموعةٍ من القوانين المنسجمة يحكمها قانونٌ واحدٌ سائدٌ في ألوان الوجود في الكونيّات العليا والسّفلى.

الآية رقم (2) - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ

فما أدراك يا محمّد ما هو الطّارق، فأنت لا تعرف عنه شيئاً سوى من آثاره، لولا أنّ الله سبحانه وتعالى بيّن ما هو.

الآية رقم (13) - إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ

﴿إِنَّهُ﴾: أي القرآن العظيم.

﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾: أي يفصل بين الحقّ والباطل، فهو فصلٌ بكلّ ما جاء فيه، يفصل في القضايا كلّها.

الآية رقم (3) - النَّجْمُ الثَّاقِبُ

فالطّارق هو النّجم الثّاقب.

﴿الثَّاقِبُ﴾ : أي يثقب الظّلام بضوئه، وهذه آيةٌ من آيات الكون؛ لأنّ الخالق سبحانه وتعالى بيّن لنا عنايته بالخلق، فجعل سبحانه وتعالى  ضوء الشّمس للنّهار ضياءً، قال سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: من الآية 5]، وجعل النّجوم علاماتٍ يهتدي بها البشر باللّيل، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النّحل]، وجعل الشّعاع الّذي يأتي من النّجم مُضيئاً مُمزّقاً لذلك الظّلام الشّامل ممّا يجعل الحركة ليلاً أمراً ميسّراً.

الآية رقم (14) - وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ

في الحديث الّذي رواه سيّدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنها ستكون فتنة»، قال: قلت: فما المخرج؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى -أو قال: العلم- من غيره أضلّه، هو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، وهو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلقُ عن كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه»([1]).

﴿بِالْهَزْلِ﴾: الهزل: أي اللّعب.

فالقرآن الكريم جدٌّ وليس لعباً، نزل بالحقّ وليس بالباطل، وما دام القرآن الكريم هكذا فليكن مهيباً في صدوركم، معظّماً في قلوبكم، يرتفع به قارئه وسامعه.

 


([1]) شعب الإيمان: التّاسع عشر من شعب الإيمان هو بابٌ في تعظيم القرآن، فصلٌ في تعاليم القرآن، الحديث رقم (1935).

الآية رقم (4) - إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ

ما علاقة النّجم الثّاقب الـمُقسَم به بهذا الجواب؟ الجواب: العلاقة أنّ كلمة حافظ إمّا أن تؤخذ بمعنى الحبّ والرّعاية من الحافظ للمحفوظ، وإمّا أن تكون بمعنى المراقِب لك الّذي لا يغيب عنه شيءٌ، فإذا أخذناها بالمعنى الأوّل نجد قول الحقّ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرّعد: من الآية 11]، يعني ذلك الحفظ بأمر الله سبحانه وتعالى ؛ لأنّ الإنسان تمرّ به أحداثٌ كثيرةٌ لا يمكن لقوّته أن تدفعها، ولا يمكن له بحيلته أن يهرب منها، فإذا وقعت له هذه الأحداث يقول: إنّها مسألةٌ إلهيّةٌ لا طاقة لي بها، وما نجوت منها إلّا بإرادة الله سبحانه وتعالى ، وهذا يعني أنّ الله عزَّ وجل وكّل به من يحفظه من الأشياء الّتي فوق طاقته، وإن كان الحفظ بمعنى الرّقابة فهي من باب قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار].

﴿إِن﴾: بمعنى (ما) النّافية.

الآية رقم (15) - إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا

هم مشركو مكّة الّذين يكيدون لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وللإسلام.

الآية رقم (17) - هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ

الحديث هنا لسيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ﴾: هنا استفهامٌ يحمل معنى الإيجاب؛ أي قد أتاك هذا الخبر وعلمت به، فهو أمرٌ مشهورٌ يتداوله النّاس، وتتناقله السّير والأخبار، فهو ليس كلاماً جديداً.

﴿الْجُنُودِ﴾: جمع جنديّ، وهو مَن جنّد نفسه استعداداً للدّفاع والقتال والتّضحية.

الآية رقم (18) - فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ

بيّن معنى الجنود؛ أي قوم فرعون، وثمود قوم سيّدنا صالح عليه السَّلام ومن دقّة الأداء القرآنيّ أنّه أفرد فرعون، بينما ثمود اسم قبيلةٍ؛ أي ذكرهم بالجمع، وهذا يدلّنا على أنّ قبيلة ثمود كانوا مجمعين على عداء الرّسول صالح عليه السَّلام أمّا قوم فرعون فمنهم من آمن ولكنّه هو الّذي قاد عداء موسى عليه السَّلام وادّعى الألوهيّة والرّبوبيّة فصدّقه قومه وأطاعوه.

لكنّنا نلاحظ أنّ المكذّبين لرسول الله ولدعوته مع حرصهم على التّكذيب والمناوشة لم يمرّوا بهذه المسألة ولم يتحدّثوا عمّا جرى مع فرعون وثمود، وهذا يدلّ على أنّه أمرٌ معلومٌ لديهم، لكنّهم كتموا الحقّ وكذّبوا وعتوا عتوّاً كبيراً. واقتصر الله سبحانه وتعالى على ذكر الطّائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب وعند مُشركي العرب، ودلّ بهما على أمثالهما، فأين أنتم أيّها المكذّبون من قريش أمام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أين أنتم من حضارة وتقدّم فرعون وثمود؟ انظروا ماذا حلّ بهم واعتبروا.

الآية رقم (8) - وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

هذه هي جريمتهم في نظر أهل الباطل والكفر، فما كرهوا منهم وما أنكروا عليهم إلّا إيمانهم بالله سبحانه وتعالى، وكان الجزاء على هذه الجريمة قذفهم في هذه الحفرة الّتي أوقدوا فيها ناراً ذات وقودٍ، والحقّ سبحانه وتعالى  يصوّر لنا هذا الموقف بأسلوبٍ بلاغيٍّ رائعٍ ومشهورٍ عند العرب، يسمّونه تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ، فكلمة: ﴿نَقَمُوا﴾ تعني أنكروا وكرهوا، والكراهية لا تكون إلّا لصفةٍ مذمومةٍ، لكن يُفاجئك السّياق القرآنيّ بصفةٍ محمودةٍ: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، كما تقول مثلاً: لا عيب في فلانٍ إلّا أنّه كريمٌ، فأنت تؤكّد على كرمه بهذا الأسلوب، وكما نقول: لم يجدوا في الورد عيباً فقالوا: يا أحمر الخدّين، وهل حمرة الخدّين عيبٌ؟! من ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [التّوبة: من الآية 74]، فأهل الكفر والباطل وأصحاب الأخدود كرهوا أمراً ليس من الطّبيعة ولا من الفطرة أن يُكرَه، وهذا يدلّ على فساد عقليّتهم؛ لأنّهم عدّوا قمّة الخير ممّا يُكره، وكأنّ القرآن الكريم يُشير إلى أنّ هؤلاء الكافرين لو ذكروا صفات المؤمنين الّذين أحرقوهم، واستعرضوا سلوكيّاتهم وأخلاقيّاتهم لما وجدوا فيها شيئاً يُنكَر عليهم، فلماذا ألقوهم في النّار؟ إنّه الطّغيان الّذي يحافظ على البطش والجبروت، فيرى العبوديّة لله سبحانه وتعالى مذمومةً.