سورة النّمل من السّور الّتي أُنزلت على نبيّنا ﷺ وهو في مكّة المكرّمة، نزلت بعد سورة الشّعراء، عدد آياتها (93) آية، وهي السّورة السّابعة والعشرون حسب ترتيبها في المصحف الشّريف، اشتملت هذه السّورة الكريمة على أصول العقيدة والتّوحيد، وتحدّثت عن البعث، كما ذُكِر فيها عدد من قصص أنبياء الله تعالى، منها قصّة صالح عليه السّلام وكيف عذّب الله عزَّ وجلَّ قومه عندما رفضوا الإيمان، وقصّة داود وسليمان عليهما السّلام، وقصّة لوط عليه السّلام، أمّا لماذا سُـمّيت سورة النّمل؟! فذلك؛ لأنّها اشتملت على قصّة سيّدنا سليمان عليه السّلام مع النّملة، وحديثه معها: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، فقصّة سيّدنا سليمان مع النّملة أنّ الله عزَّ وجلَّ وهب لنبيّه سليمان عليه السّلام مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فقد كان يسخّر الجنّ فيصنعون له ما يشاء، كما سُخّرت له الرّيح تجري بأمره الى الأرض الّتي يشاء الذّهاب إليها، وكذلك علّمه الله عزَّ وجلَّ منطق الطّير والحيوان، فكان عليه السّلام يخاطبهم ويتحاور معهم ويسمع كلامهم، وفي أحد الأيّام بينما كان سيّدنا سليمان عليه السّلام يسير في موكبه إذ به يستمع إلى حوار عجيب بين نملة وقبيلتها من النّمل، فالنّملة تخاطب قومها طالبة منهم ومحذّرة بقولها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وعندما سمع سليمان عليه السّلام هذا القول: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾، وهذا غاية في الأدب حينما لا يغفل عن نبيّ الله سليمان عليه السّلام فضل الله تعالى عليه، ففي كلّ نعمه يلمس أثرها في حياته، فقد أعطاه الله عزَّ وجلَّ ما لم يُعط غيره من الأنبياء، وهذا يوجب عليه أن يقابل تلك النّعمة بالشّكر والإحسان، كما أنّ تلمّس آثار النّعمة في الدّنيا ذكّرت نبيّ الله عليه السّلام أنّ الرّحمة الإلهيّة هي أفضل وهي غايه النّاس جميعاً، وقد ورد العديد من الشّواهد الدّالّة على وحدانيّة الله عزَّ وجلَّ في سورة النّمل، وتحدّثت السّورة عن قدرة الله عزَّ وجلَّ وخلق السّموات والأرض، وإنزال الماء من السّماء وإنبات الحدائق والبساتين والزّروع والأشجار ذات اللّون البهيج، وجعل الأرض قراراً ليستقرّ عليها النّاس، وأنّ الله عزَّ وجلَّ هو الّذي يُجيب المضطرّ إذا دعاه، وهو الهادي في ظلمات البرّ والبحر، وهو عالم الغيب والشّهادة.
حزب: 37
الآية رقم (101) - وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
﴿وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾: فرْق بين الشّافع والصّديق، فالشّافع لا بُدَّ أن تطلب منه أن يشفع لك، أمّا الصّديق وخاصّة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه، إنّما يبادرك بالمساعدة، ووصف الصّديق بأنّه حميم؛ لأنّ الصّداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع، حيث كلّ إنسان مشغول بنفسه، فإذا لم تكُنْ الصّداقة داخلة في الحميميّة، فلن يسأل صديق عن صديقه، كما قالت عزَّ وجلَّ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس]، وقد أثارت مسألة الشّفاعة لغطاً كثيراً من المستشرقين الّذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن الكريم، فجاء أحدهم يقول: تقولون إنّ القرآن معجزة في البلاغة، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين، فإنْ كان الأوّل بليغاً فالآخر غير بليغ، وإنْ كان الثّاني بليغاً فالأوّل غير بليغ، ثمّ يقول عن مثل هذه الآيات: إنّها تكرار لا فائدة منه! ونقول له: أنت تنظر إلى المعنى في إجماله، وليس لديك الملَكة العربيّة الّتي تستقبل بها كلام الله تعالى، ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتّهمتَ القرآن الكريم، فكلّ آية ممّا تظنّه تكراراً إنّما هي تأسيس في مكانها لا تصلح إلّا له، والآيتان محلّ الكلام عن الشّفاعة في سورة البقرة، وهما متّفقتان في الصّدر مختلفتان في العَجْز، إحداهما: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: من الآية 48]، والأخرى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾[البقرة: من الآية 123]، فصدْر الآيتين متّفق، أمّا عَجُز الأولى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾[البقرة: من الآية 48]، وعَجُز الأخرى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾[البقرة: من الآية 123]، فهما مختلفتان، وحين نتأمّل صَدْرَيْ الآيتين الّذي نظنّه واحداً نجد أنّه مختلف أيضاً، نعم هو مُتّحد في ظاهره، لكن حين نتأمّله نجد أنّ الضّمير فيهما: إمّا يعود على الشّافع، وإمّا يعود على المشفوع له، فإنْ عاد الضّمير على المشفوع له، نقول له: لا نأخذ منك عدلاً، ولا تنفعك شفاعة، وإنْ عاد الضّمير على الشّافع نقول له: لا نقبل منك شفاعة -ونُقدِّم الشّفاعة أوّلاً- ولا نأخذ منك عدلاً، فليس في الآيتين تكرار كما تظنّون، فكلٌّ منهما يحمل معنى لا تؤدّيه الآية الأخرى، وقد أوضحنا هذه المسألة أيضاً في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ﴾[الأنعام: من الآية 151]، والأخرى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾[الإسراء: من الآية 31]، فصدْرا الآيتين مختلف، وكذلك العَجْز مختلف، فعَجُز الأولى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾[الأنعام: من الآية 151]، وعَجُز الأخرى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 31]، وحين نتأمّل الآيتين نجد أنّ لكلّ منهما معناها الخاصّ بها، وليس فيهما تكراراً كما يظنّ بعضهم، ففي الآية الأولى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ﴾ [الأنعام: من الآية 151]، فالفقر في هذه الحالة موجود فعلاً، وشُغل الأب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الآية: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: من الآية 151]، فقدَّمهم على الأولاد، أمّا في الآية الأخرى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: من الآية 31]، فالفقر غير موجود، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد، فهو مشغول برزق الولد، لا برزقه هو؛ لأنّه غنيّ غير محتاج؛ لذلك قدَّم الأولاد في عَجُز الآية: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء: من الآية 31]، كأنّه يقول للأب: اطمئنّ فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أوّلاً، وسوف تُرزَق أنت أيضاً معهم، فلكلّ آية معناها الّذي لا تؤدّيه عنها الآية الأخرى.
ثمّ يقول الحقّ عزَّ وجلَّ عنهم أنّهم قالوا:
الآية رقم (110) - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: بعد أن بيَّن لهم كرم الرّبوبيّة في مسألة الأجر على الدّعوة، أعطاهم ما يشجّعهم على التّقوى والطّاعة؛ لأنّهم سينتفعون برسالة الرّسول دون أجر منهم.
﴿وَأَطِيعُونِ﴾: أي: ليست لي طاعة ذاتيّة، إنّما أطيعوني؛ لأنّي رسول من قِبَل الله عزَّ وجلَّ. ثمّ يقول الله عزَّ وجلَّ حاكياً ردَّهم على نوح عليه السّلام:
الآية رقم (109) - وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾: لم نسمع هذه العبارة على لسان إبراهيم عليه السّلام، ولا على لسان موسى عليه السّلام، فأوّل مَنْ قالها نوح عليه السّلام، وكوْنك تقول لآخر: لا أسألك أَجْراً على هذا العمل، فهذا يعني أنّك تستحقّ أجراً على هذا العمل، وأنت غير زاهد في الأجر، إنّما إنْ أخذته من المنتفع بعملك، فسوف يُقوِّمه لك بمقاييسه البشريّة؛ لذلك من الأفضل أن تأخذ أجرك من الله عزَّ وجلَّ، فكأنّ نوحاً عليه السّلام يقول: أنتم أيّها البشر لا تستطيعون أن تُقوِّموا ما أقوم به من أجلكم؛ لأنّني جئتكم بمنهج هداية يُسعِدكم في الدّنيا، ويُنجيكم في الآخرة، وأجري فيه على الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّكم تُعطون على قَدْر إمكاناتكم وعلمكم.
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: (إنْ) هنا بمعنى: (ما) النّافية؛ لأنّه تعالى القادر على أن يُكافئني على دعوتي، فهو الّذي أرسلني بها، وهو سبحانه ربّ العالمين الّذي خلق الخَلْق من عَدم، وأمدّهم من عُدم، وخلق لي ولكم الأرزاق، وهذا كلّه لمصلحتكم؛ لأنّه تعالى لا ينتفع من هذا بشيء، والرّبوبيّة تقتضي عناية، وتقتضي نفقة وخلقاً وإمداداً، فصاحب هذه الأفضال والنّعم كلّها هو الّذي يُعطيني أجري.
الآية رقم (108) - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
وكأنّه يتصالح معهم، فيُخفّف من أسلوب النُّصْح، ويأتي بالأمر صريحاً بعد أن أتى به في صورة إنكار ألّا يكونوا متّقين، وثمرة التّقوى طاعة الأوامر واجتناب النّواهي، وهذه لا نعرفها إلّا من الرّسول حامل المنهج ومُبلِّغ الدّعوة والأمين عليها، وقد تردّدتْ هذه الآية على ألسنة كثير من رسل الله تعالى: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾.
الآية رقم (107) - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾: فإنْ كانت عندكم غفلة فقد رَحِم الله عزَّ وجلَّ غفلتكم، ونبّهكم برسول أمين يَعِظكم ويعلّمكم ويُبلّغكم منهج الله عزَّ وجلَّ، وهو أمين لن يغشَّكم في شيء حتّى لا تقولوا: إنَّا كنَّا غافلين، وما دُمْت مرسلاً من الله عزَّ وجلَّ إليكم، وأميناً عليكم وعلى دعوتي، فاسمعوا منّي؛ لذلك كرَّر الأمر بالتّقوى.
الآية رقم (106) - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ﴾: يريد أن يُحنِّن قلوبهم عليه بكلمة: ﴿أخُوهُمْ﴾ الّتي تعني أنّه منهم وقريب الصِّلة بهم، ليس غريباً عنهم، فهم يعرفون أصله ونشأته، ويعلمون صفاته وأخلاقه، لذلك لـمّا بُعِث النّبيّ ﷺ وبلّغ النّاس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب النّاس إليه، وهي السّيّدة خديجة رضي الله عنها دون أنْ تسمع منه آية واحدة، وكذلك الصِّدّيق أبو بكر رضي الله عنه وغيرهما من المؤمنين الأوائل، لماذا؟ لأنّهم بَنَوْا على تاريخه السّابق، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرّسالة، فعلموا أنّ الّذي لا يكذب على النّاس مستحيل أن يكذب على ربّ النّاس، والسّيّدة خديجة رضوان الله عليها تعدّ أوّل فقيهة، وأوّل عالمة أصول في الإسلام، حينما جاءها رسول الله ﷺ يشكو ما يعاني، عندما جاءه الوحي، قالت له: “كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الـمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ”([1])، ولـمّا علم الصِّدِّيق بحادثة الإسراء والمعراج بادر بالتّصديق، ولم يتردّد، ولـمّا سُئل عن ذلك قال: إنّنا نصدّقه في الأمر يأتي من السّماء فكيف لا نصدّقه في هذه، فإنْ كان قال فقد صدق، هذه كلّها معانٍ نفهمها من قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ﴾، وهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾[التّوبة: من الآية 128]، فالّذي يُتعِب النّاس في استقبال الحقّ أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل، والحقّ لا يجتمع مع الباطل ولا يضمّهما محلٌّ واحد؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة، فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل أوّلاً، ثمّ حَكِّم عقلك في الأمر، واستفتِ قلبك.
﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾: هذه الكلمة جاءت على لسان الرّسل كلّهم أو يقولها الرّسول أوَّلَ ما يُبعث، ومعناها: اتّقوا الله.
﴿أَلَا﴾: أداة للحضِّ، والحثِّ على الفعل، كما تقول للولد المهمل: ألَا تُذاكر أو هَلَّا تُذاكر، وحين نحلّل أسلوب الحضِّ أو الحثِّ نجد أنّه يأتي على صورة التّعجّب من نفي الفعل، كما تقول للولد الّذي لا يصلّي وتريد أن تحثَّه على الصّلاة: ألَا تُصلّي؟! استفهام بالنّفي، وعندها يستحي الولد أن يقولها، لكن حين تستفهم بالإثبات: أتصلّي؟ يقولها بفخر: نعم، فمعنى الحثِّ: تعجُّب من ترْك الفعل، وإنكار يحمل معنى الأمر.
فمعنى: ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾: أُنكِر عليكم ألّا تكونوا متّقين، والمراد: أطلب منكم أن تكونوا متّقين.
(([1] صحيح البخاريّ: بَابُ بَدْءِ الوَحْيِ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟، الحديث رقم (3).
الآية رقم (105) - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾: القوم: هم الرّجال خاصّة، وسُـمُّوا قوماً؛ لأنّهم هم الّذين يقومون بأهمّ الأشياء، ويقابل القوم النّساء، كما جاء شرح هذا المعنى في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ﴾ [الحجرات: من الآية 11].
ونلحظ أنّ الآية تقول: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾، كيف وهم ما كذّبوا إلّا رسولهم نوحاً عليه السّلام؟ قال العلماء: لأنّ الرّسل عن الله تعالى إنّما جاؤوا بأصول ثابتة في العقيدة والأخلاق لا تتغيّر في أيّ دين؛ لذلك فمن كذَّب رسوله فكأنّه كذَّب الرّسل كلّهم، والاختلاف فقط بالشّرائع، يقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران]، وقال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾[البقرة: من الآية 285]، فإنْ قال بعضهم: فماذا عن اختلاف المناهج والشّرائع من نبيّ لآخر؟ نقول: هذه اختلافات في مسائل تقتضيها تطوّرات المجتمعات، وهي فرعيّات لا تتّصل بأصل العقائد والأخلاق، لذلك نجد هذه لازمة في مواكب الرّسالات كُلِّها، يقول: ﴿مُسْلِمُونَ﴾؛ لأنّ الّذي يُكذِّب رسوله فيما اتّفق فيه الأجيال من عقائد وأخلاق، فكأنّه كذّب جميع المرسلين.
الآية رقم (104) - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أي: مع كونهم لم يؤمن أكثرهم، فالله عزَّ وجلَّ هو العزيز الّذي لا يُغلَب، إنّما يغلِب، ومع عِزّته تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التّوبة لمن تاب.
﴿الْعَزِيزُ﴾: هو الّذي لا يحتاج غيره، فالله عزَّ وجلَّ لا يحتاج عبادة البشر، وفي الحديث القدسيّ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً»([1])، ومع ذلك فهو عزيز لا يحتاج غيره ولا يُغلَب، ومع ذلك فإنّه:
﴿الرَّحِيمُ﴾: فهو رحيم، يفتح باب التّوبة لمن تاب، قال عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزّمر]، وقال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان]، وباب التّوبة مفتوح لا يُغلَق.
ثمّ ينتقل السّياق القرآنيّ من قصّة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام إلى قصّة أخرى من رَكْب الأنبياء ومواكب الرّسل هي قصّة نوح عليه السّلام:
(([1] صحيح مسلم: كتاب البرّ والصِّلَة والآداب، بَابُ تَحريمِ الظُّلم، الحديث رقم (2577).
الآية رقم (103) - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾: أي: فيما سبق.
﴿لَآيَةً﴾: هي الأمر العجيب اللّافت للنّظر، وما كان ينبغي أنْ يمرَّ على العقول دون تأمّل واعتبار.
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: مع أنّ هذه الآيات ظاهرة واضحة، ومع ذلك كان أكثرهم غير مؤمنين.
الآية رقم (102) - فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾: أي: عودة إلى الدّنيا ورجعة.
﴿فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أي: نستأنف حياة جديدة، فنؤمن بالله عزَّ وجلَّ ونطيعه، ونستقيم على منهجه، ولا نقف هذا الموقف.
وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة، يقول عزَّ وجلَّ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون]، والمراد بقوله: ﴿كَلَّا﴾؛ أي: لن يعودوا مرّة أخرى، وما هي إلّا كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون النّجاة بها، لكن هيهات، فبينهم وبين الدّنيا برزخٌ يعزلهم عنها، ويمنعهم العودة إليها، وسوف يظلّ هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون.
الآية رقم (100) - فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ
﴿شَافِعِينَ﴾ﱢ: الشّافع من الشَّفْع؛ أي: الاثنين، والشّافع هو الّذي يضمُّ صوته إلى صوتك في أمر لا تستطيع أن تناله بذاتك، فيتوسّط لك عند مَنْ لديه هذا الأمر، والشّفاعة في الآخرة لا تكون إلّا لمن أَذِن الله عزَّ وجلَّ له، يقول تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء: من الآية 28]، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة: من الآية 255]، فليس كلّ أحد صالحاً للشّفاعة، مُعدّاً لها، وكذلك في الشّفاعة في الدّنيا فلا يشفع لك إلّا صاحب منزلة ومكانة، وله عند النّاس أيَادٍ بيضاء تحملهم على احترامه وقبول وساطته، فهي شفاعة مدفوعة الثّمن، فللشّافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عمّا يطلب للمشفوع له.
الآية رقم (99) - وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ
يعني: يا ربّ أرنا هؤلاء المجرمين، ومَكِنّا منهم لننتقم لأنفسنا، ونجعلهم تحت أقدامنا، وهكذا أخرجوا كلّ سُـمِّهم في هؤلاء المجرمين، وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه.
الآية رقم (97 - 98) - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ () إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
﴿تَاللَّهِ﴾: يعني: والله.
﴿إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: يعني: ظاهر ومحيط بنا من كلّ ناحية، فأين كانت عقولنا ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟ أي: في الحبّ، وفي الطّاعة، وفي العبادة، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: من الآية 165].
الآية رقم (96) - قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
هذه لقطة من ساحة القيامة، حيث يختصم أهل الضّلال مع مَنْ أضلّوهم، ويُلْقِي كلٌّ منهم بالتّبعة على الآخر، وهذه الخصومة وردتْ في قوله عزَّ وجلَّ على لسان الشّيطان: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: من الآية 22]، والمعنى: لم يكُنْ لي عليكم سلطانُ قَهْر أحملكم به على طاعتي، ولا سلطان حجّة أقنعكم به، ثمّ يعترف أهل الضّلال بضلالهم، ويقسمون:
الآية رقم (95) - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ
ولإبليس جنودٌ من الجنّ، وجنود من الإنس، سيجتمعون جميعاً في النّار.
الآية رقم (94) - فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ
﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾: الفعل كَبْكب، يعني: كبّوا مرّة بعد أخرى على وجوههم، فكلّما قام كُبَّ على وجهه مرّة أخرى، وهي على وزن فعللة الدّالّ على التّكرار، كما تقول: زقزقة العصافير، ونقنقة الضّفادع، والمراد هنا الأصنام تُكَبّ على وجوهها، وتسبق مَنْ عبدها إلى النّار، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾[الأنبياء].
﴿هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾: فالغاوون يسبقون مَنْ أغْوَوْهم وأضلّوهم؛ ليقطع أمل التّابعين لهم في النّجاة، فلو دخل التّابعون أوّلاً، لقالوا: سيأتي مَنْ عبدناهم لينقذونا، لكن يجدونهم أمامهم قد سبقوهم، كما قال عزَّ وجلَّ عن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾[هود: من الآية 98].
الآية رقم (92 - 93) - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ () مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ
﴿لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾: أرونا مَنْ أشركتموهم مع الله تعالى، أين هم الآن؟ وفي موضع آخر يقول عزَّ وجلَّ: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ﴾[الصّافّات]، لقد ضلّوا عنكم، وتركوكم، بل وتبرّؤوا منكم: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة].
﴿هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾: يعني: لا يستطيعون نصركم، أو الدّفاع عنكم، ولا حتّى نَصْر أنفسهم، فإنْ كان نصرهم لأنفسهم ممنوعاً فلغيرهم من باب أَوْلَى، ففي الآية تقريع لهم ولمن عبدوهم من غير الله تعالى.
الآية رقم (91) - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾: وهذه لمن أتى الله عزَّ وجلَّ بقلب غير سليم، قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء، وفي آية أخرى يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾[مريم: من الآية 71]، والورود لا يعني دخول النّار، إنّما رؤيتها والمرور بها؛ لأنّ الصّراط مضروب على مَتْن جهنّم، والحكمة من ورود النّار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن فَضْل الإيمان عليه، وأنّه سبب نجاته من هذه النّار الّتي يراها، يقول عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾[آل عمران: من الآية 185].
﴿لِلْغَاوِينَ﴾: جمع غَاوٍ، وهو إمّا أنْ يكون غاوياً في نفسه، أو أغوى غيره، فتطلق على الغاوي، وعلى الّذي يُغوِي غيره.
الآية رقم (90) - وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
﴿وَأُزْلِفَتِ﴾: يعني: قرِّبت، لكن كيف تقرّب منهم وهم بداخلها؟ قالوا: تُقرَّب منهم قبل أن يدخلوها، وهم ما زالوا في شدّة الموقف وهول القيامة والحساب، فتُقرَّب منهم الجنّة ليطمئنّوا بها، ويهون عليهم هذا الموقف الصّعب، وفي آية أخرى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾[ق]، يعني: يروْنها عياناً، ويعرفون أنّها النّعيم الّذي ينتظرهم، وسوف يباشرونه عن قريب.