﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾: سبق أن تكلّمنا في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: من الآية 7]، وهذه صِفَة الرّسل كلّهم، وليس محمّد ﷺ بِدْعاً في ذلك، وإذا كان أكْل الطّعام يقدح في كونه ﷺ رسولاً، وكانوا يريدون رسولاً لا يأكل الطّعام، فنقول: بالله إذا كان أكْل الطّعام منعه عندكم أن يكون رسولاً، فكيف تقولون لمن أكل الطّعام: إنّه إله؟ كيف وأنتم ما رضيتم به رسولاً؟ وقد جعل الله تعالى الرّسل يأكلون الطّعام، ويمشون في الأسواق؛ لأنّ الرّسول يجب أن يكون قدوة وأُسوْة في كلّ شيء للخَلْق، ولذلك كان رسول الله ﷺ على أقلِّ حالات الكون المادّيّة من ناحية أمور الدّنيا من أكْل وشُرْب ولباس، ذلك ليكون أُسْوة للنّاس، وكذلك نجده ﷺ حريصاً على أن يكون أهل بيته مثله، لذلك لم يجعل لهم نصيباً في الزكاة الّتي يأخذها أمثالهم من الفقراء، ويقول ﷺ: «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»([1])، ومَنْ كان عليه دَيْن من المسلمين تحمّله عنه رسول الله ﷺ، وهذا كلّه إنْ دلَّ فإنّما يدلّ على أنّه ﷺ واثق من جزاء أُخْراه، فلا يُحبّ أن يناله منه شيء في الدّنيا.
﴿وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾: أي: يرتادونها لقضاء مصالحهم وشراء حاجاتهم، دليلٌ على تواضعهم وعدم تكبُّرهم على مثل هذه الأعمال؛ لذلك كان سيّدنا رسول الله ﷺ يحمل حاجته بنفسه، فإنْ عرض عليه أحدُ صحابته أنْ يحملها عنه يقول ﷺ: «صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ»([2]).
﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾: فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض؟ كما في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾[الزّخرف: من الآية 32]، أيُّ بعض مرفوع، وأيّ بعض مرفوع عليه؟ نلاحظ في مثل هذه المسائل أنّ النّاس لا تنظر إلّا إلى زاوية واحدة: أنّ هذا غنيٌّ وهذا فقير، لكنّهم لو أخذوا في المفاضلة بجوانب النّفس الإنسانيّة كلّها لوجدوا أنّه في كلّ إنسان موهبةً خَصّه الله تعالى بها، فكلٌّ مِنّا عنده ميزةٌ ليست عند أخيه؛ ذلك ليتكاتف النّاس ويتكامل الخَلْق؛ لأنّ العالم لو كان نسخة واحدة مكرّرة ما احتاجَ أحدٌ إلى أحد، وما سأل أحد عن أحد، أمّا حين تتعدّد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي، يترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التّفضّل.
فمعنى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾: كلّ بعضٍ منّا فتنة للآخر، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير، والفقير فتنة للغنيّ.. إلخ، فحين يتعالى الغنيّ على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا فتنة للغنيّ، وحين يحقد الفقير على الغنيّ ويحسده، فالغنيّ هنا فتنة للفقير، وهكذا.. الصّحيح فتنة للمريض، والرّسل فتنة لمن كذّبوهم، والكفّار فتنة للرّسل، والنّاس يفرّون من الفتنة في ذاتها، وهذا لا يصحّ؛ لأنّ الفتنة تعني الاختبار، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت]، فالّذي ينبغي أن نفرّ منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطّلّاب، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر، ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ، فالفتنة في ذاتها غير مذمومة، لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذّهب حين يُصْهر، ومعلومٌ أنّ الذّهَب أفضل المعادن، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه، لماذا؟ لأنّ مِنْ ميزاته أنّه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره، وهو سهل السَّبْك؛ لذلك يقولون: المعدن النّفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره، سريعٌ جَبْره، فمثلاً حين يتكسّر الذّهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزّجاج مثلاً، فالفتنة اختبار، الماهر مَنْ يفوز فيه، فإنْ كان غنيّاً كان شاكراً مُؤدِّياً لحقِّ الغنى مُتواضعاً، يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم، والفقير هو العاجز عن الكسب، لا الفقير الّذي احترف أَكْل أموال النّاس بالباطل.
﴿أَتَصْبِرُونَ﴾: لـمّا كانت الفتنة تقتضي صَبْراً مِنَ المفتون، قال تعالى: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾، فكلّ فتنة تحتاج إلى صبر، فهل تصبرون عليها؟ ولأهمّـيّة الصّبر يقول تعالى في سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[العصر]، يعني: مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلّا أنْ يتّصف بهذه الصّفات: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر].
وتُختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾، لينبّهنا الحقّ تعالى أنّ كلّ حركة من حركاتنا في الفتنة يجب أن نكون واعين لها، ومُبصَرة لنا، وبصرنا للأعمال ليس لمجرّد العلم، إنّما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها، فالله تعالى بصير بأعمالنا مُطّلع على سرائرنا، يعلم ما فعلنا، فعندما نصبر فالصّبر ليس خطابات تُقال، وإنّما هو من أهمّ علائم الإيمان، وهو نصف الإيمان، لذلك قدّمه الله تعالى عندما قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾[البقرة: من الآية 45]، قدّم الاستعانة بالصّبر؛ لأنّ الإنسان قد يكون مصلّياً، لكنّه لا يستطيع أن يكون صابراً على بلاءات وامتحانات الحياة، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك]، فما دمنا سنُبتلى، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة]، فالحياة تحتاج إلى صبر.
([1]) السّنن الكبرى للنّسائيّ: كِتَابُ الفَرَائِضِ، ذِكْرُ مَوَارِيثِ الأنبيَاءِ، الحديث رقم (6275).
([2]) شعب الإيمان: الملابس والزّي والأواني وما يُكرَه منها، فصل فيما كان يلبسه رسول الله ﷺ، الحديث رقم (5830).