الآية رقم (20) - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ
انظر كم فضل من الله تعالى تفضّل به على عباده في هذه الحادثة، ففي كلّ مرحلة من مراحل هذه القضيّة يقول تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾، وهذا دليل على أنّ ما حدث كان في النّتيجة للمؤمنين نعمة وخير، وإنْ ظنّوه غير ذلك.
لكن أين جواب (لولا)؟ الجواب يُفهَم من السّياق، وتقديره: لَفُضحْتُم ولَهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أنْ تُقدِّره كما تشاء، وما منع عنكم هذا كلّه إلّا فضل الله تعالى ورحمته، وفي موضع آخر يوضّح الحقّ تعالى منزلة هذا الفضل: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس]، فالحقّ تعالى شرع منهجاً ويحبّ مَنْ يعمل به، لكنّ فرحة العبد لا تتمّ بمجرّد العمل، وإنّما بفضل الله تعالى ورحمته في تقبُّل هذا العمل، ففضْل الله تعالى هو القاسم المشترك في كلّ تقصير من الخَلْق في منهج الخالق عزَّ وجلَّ.
وبعد هذه الحادثة كان لا بُدَّ أنْ يقول تعالى:
الآية رقم (19) - إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ﴾: الحبّ عمل قلبيّ، والكلام عمل لسانيّ، وترجمة عمليّة لما في القلب، فالمعنى: الّذين يحبّون هذا ولو لم يتكلَّموا به؛ لأنّ لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحبّ وهو عمل القلب، ثمّ التّحدّث، ثمّ السّماع دون إنكار، ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الله تعالى المرحلة الأولى منها، وهي مجرّد عمل القلب الّذي لم يتحوّل إلى نزوع وعمل وكلام، فالمسألة خطرة، وبعضهم يظنّ أنّ إشاعة الفاحشة فضيحة للمتّهم وحده، نعم هي للمتّهم، وقد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكنّ المصيبة أنّها ستكون أُسْوة سيّئة في المجتمع، وهذا توجيه من الحقّ تعالى إلى قضيّة عامّة وقاعدة يجب أن تُرَاعى، وهي: حين نسمع خبراً يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض أو يخدش حكماً من أحكام الله تعالى، فإيّانا أنْ نشيعه في النّاس؛ لأنّ الإشاعة إيجاد أُسْوة سلوكيّة عند السّامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرّأ هو أيضاً على مثل هذا الفعل، لذلك توعّد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين النّاس: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، والحقّ تعالى لم يعصم أحداً من المعصية وعمل السّيّئة، لكنّ الأَسْوء من السّيّئة إشاعتها بين النّاس، وقد تكون الإشاعة في حقّ رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإنْ سمعت في حَقِّه مَا لا يليق فلربّما زهّدك ما سمعتَ في هذا الشّخص، وزهَّدك في حسناته وإيجابيّاته، فكأنّك حرمتَ المجتمع من حسنات هذا الرّجل، وهذه المسألة هي التّعليل الّذي يستر الله تعالى به غَيْب الخَلْق عن الخَلْق، فسَتْر غيب النّاس عن النّاس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه، ويجعلنا نتعامل مع الآخرين، وننتفع بهم على عِلَّاتهم، وصدق الشّاعر الّذي قال:
فَخُذْ بِعلْمي ولَا تركَنْ إلَى عَمِلي . |
|
وَاجْنِ الثّمارَ وخَلِّ العُودَ للنَّارِ
. |
الآية رقم (18) - وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾: أي: يوضّح لكم الأحكام الشّرعيّة.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: عليم بما يصلح لعباده.
﴿حَكِيمٌ﴾: حكيم في شرعه وقدره.
الآية رقم (17) - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ﴾: الوعظ: أن تأتي لِقمّة الأشياء فتعِظ بها، كالرّجل حينما يشعر بنهايته يحاول أنْ يعِظَ أولاده ويُوصيهم، لكن لا يُوصيهم بأمور الحياة كُلِّها، إنّما بالأمور المهمّة الّتي تمثّل القمّة في أمور الحياة، ووعظ الحقّ تعالى لعباده من لُطفه تعالى ورحمته، يعظكم؛ لأنّه عزيز عليه أنْ يؤاخذكم بذنوبكم.
وتذييل الآية بهذا الشّرط: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، حثٌّ وإهاجة لجماعة المؤمنين، لينتهوا عن مثل هذا الكلام، وألّا يقعوا فيه مرّة أخرى، وكأنّه تعالى يقول لهم: إنْ عُدْتُم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم؛ لأنّ إيمانكم ساعتها سيكون إيماناً ناقصاً مشكوكاً فيه.
الآية رقم (16) - وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
هذا ما كان ما يجب أن تقابلوا به هذا الخبر، أنْ تقولوا: لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نتناقل مثل هذا الكلام.
﴿سُبْحَانَكَ﴾: كلمة تُقال عند التّعجُّب من حدوث شيء، والمعنى: سبحان الله نُنزِّهه ونُجِلّه ونُعليه أن يسمح بمثل هذا الكذب الشّنيع في حقِّ رسوله ﷺ وزوجته، فهذا كلام لا يصحّ أن نتكلّم به ولو حتّى بالنّفي، فإنْ كان الكلام بالإثبات جريمة فالكلام بالنّفي فيه مَظنّة أنّ هذا قد يحدث، كما لو قلت: الوَرِع فلان، أو الشّيخ فلان لا يشرب الخمر، فكأنّه رغم النّفي جعلته مظنّة ذلك، فلا يصحّ أن ينسب إليه السّوء ولو بالنّفي، فذلك ذَمٌّ في حقِّه لا مدح، كذلك التّحدّث بهذه التّهمة لا يليق بأمّ المؤمنين، ولو حتّى بالنّفي.
﴿هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾: كذب يبهت سامعه، ويُدهِشه لفظاعته، وشناعته، فنحن نأنف أن نقول هذا الكلام، ولو كنّا مُنكرين له.
الآية رقم (15) - إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾: لننظر إلى بلاغة الأداء القرآنيّ في التّعبير عن السّرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وَعْي ودون تفكير، فمعلوم أنّ تلقِّي الأخبار يكون بالأُذن لا بالألسنة، لكن من سرعة تناقل هذا الكلام فكأنّهم يتلقّونه بألسنتهم، وكأنّ مرحلة السّماع بالأُذُن قد أُلغيت، فبمجرّد أن سمعوا قالوا.
﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾: يعني: مجرّد كلام تتناقله الأفواه، دون أنْ يُدقِّقوا فيه؛ لذلك قال بعدها:
﴿مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾: وهذا الكلام ليس هيّناً كما تظنّون، إنّما هو عظيم عند الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّه تناول عِرْض مؤمن، وللمؤمن حُرْمته، فما بالك إنْ كان ذلك في حَقِّ رسول الله ﷺ؟.
الآية رقم (14) - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
﴿أَفَضْتُمْ﴾: أن تندفع إلى الشّيء اندفاعاً تقصد فيه السّرعة، ومعنى السّرعة أن يأخذ الحدث الكبير زمناً أقلَّ ممّا يتصوّر له، كالمسافة تمشيها في دقيقتين، فتسرع لتقطعها في دقيقة واحدة، فكأنّهم أسرعوا في هذا الكلام لـمّا سمعوه، لكن، لماذا تفضَّل الله تعالى عليهم ورحمهم، فلم يمسَّهم العذاب، ولم يُجازهم على افترائهم على أمّ المؤمنين؟ قالوا: لأنّ الحقّ تعالى أراد من هذه المسألة العبرة والعظة، وجعلها للمؤمنين وسيلةَ إيضاح، فليس المراد أن يُنزل الله تعالى بهم العذاب، إنّما أن يُعلّمهم ويعطيهم درساً في حِفْظ أعراض المؤمنين.
الآية رقم (13) - لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
وسبق أنْ ذكرت الآيات السّابقة حُكْم القذف، وأنّ على مَنْ يرمي المحصنة بهذه التّهمة أن يأتي بأربعة شهداء ليثبت صِدْق ما قال، فإنْ لم يأْتِ بهم فهو كاذب عند الله عزَّ وجلَّ، ويجب أنْ يُقام عليه حَدُّ القذف.
﴿فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾: فهم شهدوا شهادة زور، وقذفوا أمّ المؤمنين.
الآية رقم (3) - الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ﴾: لأنّ الزّواج يقوم على التّكافؤ، حتّى لا يستعلي أحد الزّوجين على الآخر، والزّاني فيه انحطاط وخِسَّة، فلا يليق به إلّا خسيسة مثله، يعني: زانية، أو أخسّ وهي المشركة؛ لأنّ الشّرك أخسُّ من الزّنا؛ لأنّ الزّنا مخالفة أمر توجيهيّ من الله عزَّ وجلَّ، أمّا الشّرك فهو كفر بالله تعالى؛ لذلك فالمشركة أخبث من الزّانية، وما نقوله في زواج الزّاني نقوله في زواج الزّانية:
﴿وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾: وهنا يعترض بعض النّاس: كيف إنْ كانت الزّانية مسلمة ينكحها مُشرك؟ قال العلماء: التّقابل هنا غرضه التّهويل والتّفظيع فقط لا الإباحة؛ لأنّ المسلمة لا يجوز أن تتزوّج مشركاً أبداً، فالآية توبيخ لها.
﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: فهذا سبب طُهْر الأنسال أن يُحرِّم الله تعالى الزّنا، فيأتي الخلف طاهر النّسل والعنصر، محضوناً بأب وأمّ، مضموماً بدفء العائلة؛ لأنّه جاء من وعاء طيّب طاهر نظيف.
فهنا بدأت سورة النّور بموضوع خطر وهو الزّنا، وهذا الموضوع يتعلّق بالأنساب والأنسال والأعراض، ويتعلّق بتكوين الأسرة والمجتمع، وبالعلاقات الاجتماعيّة، فالزّنا يهدّد المجتمع السّليم بضياع الأنساب، ويهدّده بضياع الأخلاق والقيم، وعندما أبيح الزّنا في الغرب وصلوا إلى المثليّة الجنسيّة، ووصلوا إلى المحرّمات كلّها، أمّا في مجتمعاتنا الّتي يضبطها الشّرع الإسلاميّ والشّرع المسيحيّ من خلال الزّواج في الكنيسة، ومن خلال الزّواج الّذي يتمّ وفق الشّرع والأصول بالإيجاب والقبول وشهادة الشّهود وما يتعلّق بالأحكام الّتي تحصّن الأسرة، فكان أوّل ما يهدم المجتمع وبناء الأسرة بشكل أساسيّ هو إباحة الزّنا في المجتمع، قال ﷺ: «لَـمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَـمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا»([1])، فالزّنا فاحشة كبيرة، وساءت سبيلاً كما قال المولى تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: من الآية 25].
([1]) سنن ابن ماجه: كِتَابُ الفِتَنِ، بَابُ الْعُقُوبَاتِ، الحديث رقم (4019).
الآية رقم (2) - الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾: قلنا: إنّ الله تعالى تناول هذه المسألة حرصاً على سلامة النّشء، وطهارة هذا الإنسان الّذي جعله الله تعالى خليفة له في الأرض، وحين نتأمّل السّياق القرآنيّ في هذه الآية نجد أنّ كلمة الزّاني تدلّ على كُلٍّ من الأنثى والذّكر، ففي اللّغة الاسم الموصول: الّذي للمفرد المذكّر، والّتي للمفردة المؤنّثة، واللّذان للمثنّى المذكّر، واللّتان للمثنّى المؤنّث، والّذين لجمع الذّكور، واللّائي لجمع الإناث، لكن هناك أسماء تدلّ على هذه الصّيغ كلّها، مثل: مَنْ، ما، الـ، تقول: جاء مَنْ أكرمني، وجاءت من أكرمتني، وجاء من أكرموني، فكذلك (الـ) في (الزّاني) تدلّ على المؤنّث وعلى المذكّر، لكنّ الحقّ تعالى ذكرهما صراحةً ليُزيلَ ما قد يحدث عند بعض النّاس من خلاف: أيّهما السّبب في هذه الجريمة، هذا الخلاف الّذي وقع فيه حتّى الأئمّة والفقهاء، فهناك مَنْ يقول: الزّاني واطئ وفاعل، والمرأة موطوءة، فالفعل للرّجل لا للمرأة، فهو وحده الّذي يتحمّل هذه التّبعة، وفي الحديث أنّه: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لِـمَ»، قَالَ: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَاراً، قَالَ: «تَصَدَّقْ، تَصَدَّقْ»([1])، وأخذ الشّافعيّ من هذا الحديث أنّ الكفّارة إنّما تكون على الرّجل دون المرأة، وإلّا لقال له الرّسول: (تصدّقا)، لكن يجب أن نفرّق بين وَطِئ وجَامَع، الوَطْءُ: فعل الرّجل حتّى وإن كانت الزّوجة كارهة رافضة، أمَّا الجماع: فهو حال الرّضا والقبول من الطّرفين، وفي هذه الحالة تكون الكفّارة عليهما معاً؛ لذلك صرَّح الله تبارك وتعالى بالزّاني والزّانية ليزيل هذه الشُّبهة وهذا الخلاف، وفي هذه المسألة أنّ الّذي استفتى رسولَ الله ﷺ هو الرّجلُ، ولو كانت المرأة لقال لها أيضاً: (تصدّقي)، فالحكم خاصٌّ بمن استفتى.
والمتأَمّل في آيات الحدود يجد مثلاً في حَدِّ السّرقة قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾[المائدة: من الآية 38]، فبدَأ بالمذكّر، أمّا في حَدِّ الزّنا، فقال: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾، فبدأ بالمؤنّث، لماذا الاختلاف في التّعبير القرآنيّ؟ قالوا: لأنّ دور المرأة في مسألة الزّنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي الّتي تُغري الرّجل وتثيره وتهيّج عواطفه؛ لذلك أمر الحقّ تعالى الرّجال بغَضِّ البصر وأمر النّساء بعدم إبداء الزّينة، ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها، أمّا في حالة السّرقة فعادةً يكون عِبْءُ النّفقة ومُؤْنة الحياة على كاهل الرّجل، فهو المكلّف بها؛ لذلك يسرق الرّجل، فبمقارنة آيات القرآن الكريم تجد الكلام موزوناً دقيقاً غاية الدّقّة، لكلّ كلمة ولكلّ حرف عطاؤه، فهو كلام ربّ حكيم، ولو كانت المسألة مجرّد تقنين عاديّ ما التفتَ إلى مثل هذه المسائل.
ثمّ يأتي الحدّ الرّادع لهذه الجريمة:
﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾: اجلدوا: أمر، لكن لمن هذا الأمر؟ هل المجتمع كلّه عليه إقامة الحدود؟ بالتّأكيد لا، فهناك قضاء وهناك قوانين وأنظمة هي الّتي تقوم بهذا الدّور، وهناك ولاية ومَنْ ولَّى قاضياً فقد قضى، وما دام الأمر كذلك فعلينا أن ننتبه إلى أنّ الأحكام والحدود لا يمكن أن يقوم بها النّاس بعضهم لبعض.
﴿فَاجْلِدُوا﴾: الجلد ضَرْبٌ بكيفيّة خاصّة، بحيث لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً؛ لأنّ الضّربة حسب قوّتها وحسب الآلة المستخدمة في الضّرب، فمن الضّرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك.
﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾: تحذير من الرّحمة الحمقاء، الرّحمة في غير محلّها، وعلى حَدِّ قول الشّاعر:
فَقَسا لِتَزدَجِروا وَمَن يَكُ حازِماً . |
|
فَليَقسُ أَحياناً وَحيناً يَرحَمُ
. |
فالرّأفة لا تكون في حدود الله عزَّ وجلَّ، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصّة فيما بينكم، وعجيب أن يطلب بعض النّاس الرّأفة في مسائل كهذه وهي من ناحية أخرى تؤدّي إلى انتهاك الحرمات والأعراض والنّسل، وتؤدّي إلى القتل وإلى مشكلات كثيرة جدّاً، فلا مجالَ للرّحمة والرّأفَة في حدود الله تعالى، فلسنا أرحم بالخَلْق من الخالق، وما وُضِعَتْ الحدود في القرآن الكريم حبّاً في تعذيب النّاس، إنّما وُضِعت وشُدِّد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة، للمنع وليس للقطع، فعندما تُقْطَع يد واحدة نمنع بها قَطْع آلاف الأيدي، والّذين يتّهمون الإسلام بالقسوة والبشاعة في تطبيق الحدود أَنَسُوا ما فعلوه في هيروشيما، والقنابل النّوويّة، وما أشعلوه في العالم من حروب عالميّة حصدت آلاف الأرواح؟ فما هذه الرّحمة الحمقاء الّتي لا معنى لها؟ والجلْد مئة جلدة يخصّ الزّاني غير المحْصَن، يعني غير المتزوّج، أمَّا المتزوّج فله حكم آخر لم يأْت في كتاب الله عزَّ وجلَّ، إنّما أتى في سُنّة رسول الله ﷺ؛ ذلك لأنّ القرآن الكريم ليس كتابَ منهج فقط، إنّما كتاب منهج ومعجزة ومعه أصول، من هذه الأصول، قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: من الآية 7]، هذا تشريع، فلا يجب أن نتمحّك، ونقف أمامه نُقلّب الألفاظ أو نؤوّل، فالنّبيّ ﷺ مُشَرّع، وقد رجم الزّاني والزّانية المحصنين في قصّة ماعز والغامديّة؛ لأنّه مفوّض من الله تعالى، ولا بدّ أن نفرّق بين الحدَّيْن، ففي حَدِّ الأَمَة إنْ زنت يقول تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النّساء: من الآية 25]، بعضهم فَهِم من الآية أنّها تشمل حدَّيْ الرَّجْم والجَلْد، فقالوا: في الجلد يمكن أن تجلد خمسين جلدة، لكن كيف نجزّىء الرّجم؟ وما دام الرّجم لا يُجَزَّأ فليس عليها رجم، ولو تأمّل هؤلاء نصَّ الآية لخرجوا من هذا الخلاف، فالحقّ تعالى لم يقل: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النّساء: من الآية 25] وسكت، إنّما قال: ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النّساء: من الآية 25]، فخصَّ بذلك حدَّ الجلد، لا الرّجم؛ لأنّ العذاب إيلام حَيٍّ، أمَّا الرّجم فهو إزهاق حياة، فهما متقابلان، فتجزئة الحدّ في الجَلْد فقط، أمّا الرَّجم فلا يُجزَّأ، فإنْ زنتِ الأَمَة المحصنة رُجِمَتْ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: فالمعنى: إنْ كنتم تؤمنون بالله تعالى إلهاً حكيماً مشرِّعاً، خلق خَلْقاً، ويريد أن يحمي خَلْقه ويُطهّره ليكون أهلاً لخلافته في الأرض الخلافة الحقّة، فاتركوا الخالق يتصرّف في كونه وفي خَلْقه على مراده عزَّ وجلَّ.
﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: فالأمر لا يقف عند حدِّ التّعذيب والجَلْد، إنّما للعبرة، فلا بُدَّ أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين، والطّائفة هم الجماعة وأقلّها أربعة، فعندما يشهد النّاس فهي إهانة بالإضافة إلى العذاب، فأراد الله تعالى أن يُهينهم إضافة لتعذيبهم، فمشاهدة الحدِّ إهانة لصاحبه، وهي أيضاً زَجْر لمن يُشاهد، ونموذج عمليٌّ رادع، لذلك يقولون: الحدود زواجر وجوابر، زواجر لمن شاهدها؛ أي: تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحدَّ، وجوابر لصاحب الحدّ تجبر ذنبه وتُسقِط عنه عقوبة الآخرة، فلا يمكن أن يستوي مَنْ أقرّ وأقيم عليه الحدّ بمَنْ لم يقرّ، ولأنّ الزّنا لم يثبت بشهود أبداً، وإنّما بإقرار، وهذا دليل على أنّ الحكم صحيح في ذِهْنه، ويرى أنّ فضوح الدّنيا وعذابها أهونُ من فضوح الآخرة وعذابها، إلّا لـمّا أقرّ على نفسه.
([1]) صحيح مسلم: كتاب الصّيام، بَابُ تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الجِمَاعِ في نَهارِ رمضانَ على الصَّائمِ، وَوُجُوبِ الكَفَّارَةِ الكُبْرَى فِيهِ وَبَيَانِهَا، الحديث رقم (1112).
الآية رقم (1) - سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
﴿سُورَةٌ﴾: السّورة: مأخوذة من سور البيت، وهي طائفة من نجوم القرآن الكريم أو آياته محوطة ببداية ونهاية، تحمل أحكاماً، وقد تكون طويلة كسورة (البقرة)، أو قصيرة كـ: (الإخلاص) و(الكوثر)، فليس للسّورة كمّيّة مخصوصة؛ لأنّها توقيفيّة.
﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾: نفهم من (أنزل) أنّ الإنزال من أعلى إلى مَنْ هو أدنى منه، يقول الأعلى للأدنى مثلاً: أنا أنزلت القرار الفلانيّ، فالأدنى يرفع للأعلى، والأعلى يُنزِل للأدنى.
﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾: الشّيء المفروض يعني الواجب أن يُعمل؛ لأنّ المشرّع قاله وحكم به وقدَّره، ومنه قوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾[البقرة: من الآية 237]؛ أي: نصف ما قدَّرتم، فكلّ شيء له حُكْم في الشّرع، فإنّ الله تعالى مُقدِّره تقديراً حكيماً على قَدْره.
﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾: الآيات الواضحات، وتُطلق الآيات -كما قلنا- على الآيات الكونيّة الّتي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله تعالى وبديع صُنْعه، وتُطلق على المعجزات الّتي تُثبِت صِدْق الرّسل، وتُطلق على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام، وفي هذه السّورة كثير من الأحكام، إلى أن قال فيها الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[النّور: من الآية 35]، وقال: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾[النّور: من الآية 35]، فطالما أنّكم أخذتُم نور الدّنيا، وأقررتُم أنّه الأحسن، وأنّه إذا ظهر ألغى جميع أنواركم، فخذوا نور التّشريع، واعملوا به واعلموا أنّه نور على نور، فلديكم من الله تعالى نوران: نور حسّيّ ونور معنويّ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: بعد أنْ قال تعالى أنزلت كذا وكذا أراد أنْ يُلهب المشاعر لتُستقبل آياته الاستقبال الحسن، وتُطبَّق أحكامه التّطبيق الأمثل، يقول: أنزلتُ إليكم كذا لعلّكم تذكّرون، ففيها حَثٌّ وإلهابٌ لنستفيد بتشريع الحقّ للخَلْق. ثمّ يتحدّث الحقّ تعالى عن أوّل قضيّة فيما فرضه على عبادة:
الآية رقم (0) - مقدمة تفسير سورة النور
هي سورة مدنيّة، وهي السّورة (24) في ترتيب المصحف الشّريف، سمّيت سورة (النّور)؛ لتنويرها طريق الحياة الاجتماعيّة للنّاس، ببيان الآداب والفضائل، وتشريع الأحكام والقواعد؛ ولأنّها تتضمّن الآية المشرقة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾؛ أي: أنّ الله تعالى منوّرهما، فبنوره أضاءت السّموات والأرض، وبنوره اهتدى الحيارى والضّالّون إلى طريقهم، وقد اشتملت هذه السّورة على أحكام مهمّة تتعلّق أوّلاً بالأسرة من أجل بنائها على أرسخ الدّعائم، وصونها من المخاطر والعواصف، والتّركيز على تماسكها وتنظيمها، وحمايتها من الانهيار والدّمار، فكان مقصود هذه السّورة ذكر أحكام العفاف والسّتر، وقد بدأت ببيان حدّ الزّنى، وحدّ قذف المحصنات، وحكم اللّعان عند الاتّهام بالفاحشة أو لنفي نسب الولد، من أجل تطهير المجتمع من الانحلال والفساد واختلاط الأنساب، وبُعداً عن هدم حرمة الأعراض، وصون المجتمع من التّردّي في حمأة الإباحيّة والفوضى، ثمّ ذكرت قصّة الإفك المبنيّة على سوء الظّنّ والتّسرّع بالاتّهام لتبرئة أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومحاربة شيوع الفاحشة، وترديد الإشاعات المغرضة الّتي تهدم صرح المجتمع، وتقوّض بنيانه الّذي ينبغي أن يقوم على الثّقة والمحبّة، والابتعاد عن وساوس الشّيطان والأكاذيب، ثمّ تحدّثت السّورة عن باقة من الآداب الاجتماعيّة في الحياة الخاصّة والعامّة، وهي الاستئذان عند دخول البيوت، وغضّ الأبصار، وحفظ الفروج، وإبداء النّساء زينتهنّ لغير المحارم ممّا يدلّ على تحريم الاختلاط بين الرّجال والنّساء غير المحارم، وتزويج الأيامى (غير المتزوّجين) من الرّجال والنّساء، والاستعفاف لمن لم يجد مؤن الزّواج، من أجل تحقيق الاستقامة على شريعة الله عزَّ وجلَّ، وصون الأسرة المسلمة، ورعاية حال الشّباب والفتيات، والبُعد عن الفتنة، ثمّ أبانت مزيّة تشريع الأحكام وأنّه نور وهدى، وفضل آيات القرآن الكريم، ومزيّة بيوت الله تعالى وهي المساجد، وعدم جدوى أعمال الكفّار وتشبيهها بالسّراب الخادع أو ظلمات البحار، وأعقب ذلك تنبيه النّاس إلى أدلّة وجود الله عزَّ وجلَّ ووحدانيّته في صفحة الكون الأعلى والأسفل من تقليب اللّيل والنّهار وإنزال المطر وخلق السّموات والأرض، وخضوع جميع الكائنات الحيّة لله عزَّ وجلَّ، وطيران الطّيور، وخلق الدّوابّ ذات الأنواع العجيبة، ثمّ انتقل إلى وصف مواقف المنافقين والمؤمنين الصّادقين من حكم الله تعالى والرّسول بإعراض الأوّلين وإطاعة الآخرين، ووعده تعالى للمؤمنين الّذين يعملون الصّالحات بالاستخلاف في الأرض، ثمّ عادت الآيات لبيان حكم استئذان الموالي والأطفال في البيوت في أوقات ثلاثة، وحكم رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد، وعن الأقارب والأصدقاء في الأكل من بيوت أقاربهم بلا إذن، واستئذان المؤمنين الرّسول ﷺ عند الانصراف، وتفويضه بالإذن لمن شاء، وتعظيم مجلسه ومناداته بأدب جمّ وحياء وتبجيل يليق به وبرسالته ﷺ.
وإذا استقرأنا موضوع سورة (النّور) نجد النّور شائعاً في أعطافها كلّها -لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها- ولكنّ النّور شائع في حروفها كلّها، لماذا؟ قالوا: لأنّ النّور من الألفاظ الّتي يدلّ عليها نطقها ويعرّفها أكثر من أيّ تعريف آخر، فالنّاس تعرف النّور بمجرّد نُطْق هذه الكلمة، والنّور لا يُعرَّف إلّا بحقيقة ما يؤدّيه، وهو ما تتّضح به المرئيّات، وتتجلّى به الكائنات، فلولا هذا النّور ما كنّا نرى شيئاً، بدليل أنّها إنْ كانت في ظلمة لا نراها، فالنّور لا يُرَى، ولكن نرى به الأشياء، فالله تعالى نور السّموات والأرض يُنوِّرهما لنا، لكن لا نراه جلَّ جلاله، وأدلّة الكون كلّها مرئيّة نراها أوّلاً، وقد كانوا في الماضي يعتقدون أنّ الإنسان يُبصِر الأشياء بشعاع يخرج من العين، فيسقط على الشّيء فيراه، إلى أن جاء العالِـم الإسلاميّ الحسن بن الهيثم، وأبطل هذه النّظريّة، وقال: إنّ الشّعاع يأتي من المرئي إلى العين فتراه، وليس العكس، واستدلّ على ذلك بأنّ الشّيء إنْ كان في الظّلام لا نراه، وفي ضوء هذه النّظرية فهمنا قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾[الإسراء: من الآية 12]، فهي مُبْصِرة؛ لأنّ الشّعاع يأتي من هناك، فكأنّها هي الّتي ترى، لذلك سمَّى الله تعالى المنهج الّذي يهديك في دروب الحياة نوراً.
وسورة النّور جاءت لتحمل نور المعنويّات، نور القيم، نور التّعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتّصرّف، وما دام أنّ الله تعالى وضع لنا هذا النّور فلا يصحّ للبشر أنْ يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنّه كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النّور: من الآية 40]، فلو لم تكُنْ هذه الشّمس ما استطاع أحد أنْ يصنع لنفسه نوراً أبداً، فالحقّ تعالى يريد لخليفته في أرضه -الإنسان- أن يكون طاهراً شريفاً كريماً عزيزاً؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأوّل هذه القوانين وأهمّها قانون التقاء الرّجل والمرأة التقاءً سليماً؛ لينتج عن هذا اللّقاء نَسْل طاهر جدير بخلافة الله تعالى في أرضه؛ لذلك أوّل ما تكلّم الحقّ تعالى في هذه السّورة تكلَّم عن مسألة الزّنى، نفهم من هذا أنّه لا يلتقي رجل وامرأة إلّا على نور من الله جلَّ جلاله وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنّه عزَّ وجلَّ هو خالق الإنسان، وأعلم بما يُصلحه، وهو خالق ذرّاته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذّرّات بعضها بعضاً، وهو تعالى خالق مَلَكات النّفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر.
وإنّ من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشكَّ في نِسْبة ولده إليه، وأن تعتصره هذه الفكرة، فيهمل ولده وفلذة كبده، وينفق هنا وهناك ويحرمه على خلاف النّسْل الطّاهر، حيث يتلهّف الأب لولده، ويجوع ليشبع، ويتعرّى ليلبس، فالله تعالى يريد النّسل المحضون بالأبوين في أُبوّة صحيحة شرعيّة، وأمومة صحيحة شرعيّة، اجتمعا على نور الله تعالى، فالله جلَّ جلاله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصابٍ طاهر في نور الله تعالى المعنويّ، يريد للزّوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النّور، لا أن يتلصّص في الظّلام من باب آخر، لذلك يتوعّد الله تعالى مَنْ يُخَالف هذا المنهج، ويريد أن يُفسِد شرف الخلافة الّتي يريدها الله تعالى طاهرة، ويُدنِّس النّسل، ويُوغِر الصّدور بالأحقاد والعداوات، ويزرع الشّكّ في نفوس الخَلْق، وإنّ جرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشّخصيّة، إنّما تتعدّى إلى الإضرار بالمجتمع كلّه، كذلك الحال في مسألة الزّنا؛ لأنّ الزّاني لا يقتصر شرُّه عليه وحده، إنّما يتعدّى شرُّه إلى المجتمع كلّه.
الآية رقم (12) - لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ
﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾: يُوجِّهنا الحقّ تعالى إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم وبإيمانهم، وأنْ يظنّوا بأنفسهم خيراً، وينأَوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتّهامات الّتي لا تليق بمجتمع المؤمنين، فكان على أوّل أُذن تسمع هذا الكلام على أوّل لسان ينطق به أن يرفضه؛ لأنّ الله تعالى ما كان ليُدلّس على رسوله وصَفْوته من خَلْقه، فيجعل زوجته محلَّ شكٍّ واتّهام فضلاً عن رَمْيها بهذه الجريمة البشعة.
﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾: كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن الكريم أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم، وأن يردّوا هذا الكلام.
﴿لَوْلَا﴾: أداة للحضِّ والحثِّ.
قال: ﴿الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾: لأنّه جال في هذه الفتنة رجال ونساء، والقرآن الكريم لا يحثّهم على ظنِّ الخير برسول الله ﷺ أو بزوجته، وإنّما ظنّ الخير بأنفسهم هم؛ لأنّ هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين، فما بالك بزوجة نبيّ الله ورسوله ﷺ؟
﴿وَقَالُوا﴾: أي: قبل أن ينزل القرآن الكريم ببراءتها.
﴿هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾: يعني: كذب متعمّد واضح بيِّن؛ لأنّه في حقّ أمّ المؤمنين الّتي طهَّرها الله تعالى واختارها زوجة لرسوله ﷺ.
الآية رقم (11) - إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾: الإفك: تعمّد الكذب المختلق، وهو أفظع أنواع الكذب؛ لأنّه يقلب الحقائق، ويختلق واقعاً مضادّاً لما لم يحدث، يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾[النّجم]، وهي القُرَى الّتي جعل الله عزَّ وجلَّ عاليها سافلها، وكذلك الإفك يُغيِّر الواقع، ويقلبه رَأْساً على عَقِب.
﴿عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾: العصبة: الجماعة الّتي ترتبط حركتها لتحقيق غاية متّحدة، ومن ذلك نقول: عصابة مخدّرات، عصابة سرقات، يعني: جماعة اتّفقوا على تنفيذ حَدَث لغاية واحدة، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾[يوسف: من الآية 14]، وما دام أهلُ الإفْك عصبةً، فلا بُدَّ أنّ لهم غاية واحدة في التّشويه والتّبشيع، وكان رئيسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وهو شيخ المنافقين، ففي اليوم الّذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبيّ تاجاً ليُنَصِّبوه مَلِكاً على المدينة، فلمّا فُوجِىء برسول الله ﷺ واجتماع النّاس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه، لذلك فهو القائل: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾[المنافقون: من الآية 8]، يقصد أنّه الأعزُّ، فردَّ عليه الحقّ تعالى: صدقت، لكنّ العزّة ستكون لله وللرّسول وللمؤمنين، وعليه فالخارج منها أنت، وهو أيضاً القائل: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾[المنافقون: من الآية 7]، والعجيب أنّه يعترف أنّ محمّداً رسول الله، ويقولها علانية، ومع ذلك ينكرها بأعماله وتصرّفاته، ويحدث تشويشاً في الفكر وفي أداء العبارة، وما دام أنّ الحقّ تعالى سمَّى هذه الحادثة في حَقِّ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها إفكاً، فلا بُدَّ أنّهم قَلَبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع، والقصّة حدثت في غزوة بن المصطلق، وكان النّبيّ ﷺ إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته: مَنْ تخرج منهنّ معه، وهذا ما تقتضيه عدالته ﷺ، وفي هذه الغزوة أقرع بينهنّ فخرج السّهم لعائشة فخرجتْ معه، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة، قالت السّيّدة عائشة: ذهبتُ لأقضي حاجتي في الخلاء، ثمّ رجعت إلى هَوْدَجِي ألتمس عِقْداً لي من (جَزْع ظَفَار) وهو نوع نفيس، فلمّا عادت السّيّدة عائشة رضي الله عنها وجدت القوم قد ذهبوا، ولم تجد هَوْدجها فقالت في نفسها: لا بُدَّ أنّهم سيفتقدونني وسيعودون، لكن كيف حمل القوم هودج عائشة رضي الله عنها ولم تكُنْ فيه؟ قالوا: لأنّ النّساء كُنَّ خِفَافاً لم يثقلن، وكانت عائشة نحيفة، لذلك حمل الرّجال هَودْجها دون أن يشعروا أنّها ليست بداخله، ثمّ نامت السّيّدة عائشة في موضع هودجها تنتظر مَنْ يأتيها، وكان من عادة القوم أن يتأخّر أحدهم بعد الرّحيل ليتفقّد المكان ويُعقب عليه، عَلَّه يجد شيئاً نسيه القوم أو شخصاً تخلَّف عن الرَّكْب، وكان هذا المعقِّب هو صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّل، فلمّا رأى شبحَ إنسان نائم اقترب منه، فإذا هي عائشة رضي الله عنها، فأناخ ناقته بجوارها، وأدار وجهه حتّى ركبتْ وسار بها دون أن ينظر إليها، بدليل أنّ القرآن الكريم سمَّى ما قالوه: إفْكاً، يعني: مناقضاً للواقع، فصفوان لم ينظر حتّى مجرّد النّظر، لم يفعل إلّا نقيض ما قالوا، ولـمّا قَدِم صفوان يقود ناقته بعائشة رضي الله عنها رآه بعض أهل النّفاق فاتّهموهما، وقالوا في حقّها مَا لا يليق بأمّ المؤمنين، وقد تولّى هذه الحملة رَأْسُ النّفاق في المدينة عبد الله بن أُبيّ ومِسْطح بن أُثَاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش، فروَّجوا هذا الاتّهام وأذاعوه بين النّاس.
﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾: لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته؟ قالوا: لأنّه حين تُتَّهم السّيّدة عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، وحين يُفضَح قوم على لسان القرآن الكريم، فهذا خير، لا بُدَّ أن يعتبر الآخرون، وأن يخافوا إنْ فعلوا مخالفة أنْ يفتضح أمرهم؛ لذلك جاء هذا الموقف درساً عمليّاً لمجتمع الإيمان، نعم، أصبحت الحادثة خيراً؛ لأنّها نوع من التّأييد لرسول الله ﷺ ولدعوته، فالحقّ تعالى يُؤيِّد رسوله في الأشياء المسرَّة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه، ولم يجرؤ أحد أن يُخبِر السّيّدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقّها، تقول السّيّدة عائشة رضي الله عنها: فَقَدِمْنَا الـمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْراً وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي، أَنِّي لَا أَرَى مِنَ النَّبِيِّ ﷺ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ»([1])، وقد لاحظت عائشة هذا التّغيُّر لكن لا تعرف له سبباً إلى أنْ تصادف أنْ سارت هي وأمّ مِسْطح أحد هؤلاء الخائضين، فعثرتْ فقالت: تعس مِسْطح، فنهرتها عائشة: كيف تدعو على ابنها، فقالت: إنّك لا تدرين ما يقول؟ عندها ذهبتْ السّيّدة عائشة إلى أمّها وسألتها عَمَّا يقوله النّاس فأخبرتها، حزنت السّيّدة عائشة حزناً شديداً، وجلست في بيت أهلها، ولم تعد إلى منزل رسول الله ﷺ، حتّى نزلت هذه الآية، تقول السّيّدة عائشة رضي الله عنها: حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ»، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ([2]).
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾: عبَّر عن المكر والتّبييت والكيد بـ ﴿اكْتَسَبَ﴾ الدّالّ على الافتعال.
﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾: تولَّى كبر الشّيء: يعني قام به وله حَظٌّ وافر فيه، أو نقول: هو ضالع فيه، والمقصود هنا عبد الله بن أُبيّ الّذي قاد هذه الحملة، وتولّى القيام بها وترويجها.
﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: أي: له عذاب يناسب هذه الجريمة.
([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الشَّهَادَاتِ، بَابُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضاً، الحديث رقم (2661).
([2]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الشَّهَادَاتِ، بَابُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضاً، الحديث رقم (2661).
الآية رقم (10) - وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
أي: لولا هذا لَفُضحتم ولتفاقمت بينكم العداوة، لكن عصمكم فضل الله تعالى في هذا التّشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة، والقذف جريمة بشعة في حَقِّ المجتمع كلّه، تشيع فيه الفاحشة وتتقطّع الأواصر، هذا إنْ كان للمحصنات البعيدات، وهو أعظم إنْ كان للزّوجة، لكن ما بالك إنْ وقع مثل هذا القول على أمٍّ ليست أمّاً لواحد، إنّما هي أمٌّ للمؤمنين جميعهم، هي أمّ المؤمنين السّيّدة عائشة رضي الله عنها فكانت مناسبة أن يذكر السّياق القرآنيّ ما كان من قَذْف السّيّدة عائشة رضي الله عنها، والّذي سُمِّي بحادثة الإفك؛ لماذا؟ لأنّ الله تعالى يريد أن يُعطينا الأُسْوة في النّبوّة نفسها، ويريد أنْ يُسلِّي عائشة رضي الله عنها صاحبة النّسب العريق وأمّ المؤمنين، وقد قيل فيها ما قيل؛ لذلك ستظلّ السّيّدة عائشة رضي الله عنها أُسْوة لكلّ شريفة تُرْمَى في عِرْضها، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها، نقول لها: لا عليك، فقد قالوا مثل هذا في عائشة رضي الله عنها، وتقوم آيات الإفك دليلاً على صدق رسول الله ﷺ في البلاغ عن ربّه عزَّ وجلَّ، فذكر أنّهم يرمون المحصنات، ويرمون زوجاتهم، والأفظع من ذلك أنْ يرموا زوجة النّبيّ وأمّ المؤمنين، فيقول تعالى:
الآية رقم (8 , 9) - وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ - وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ
﴿وَيَدْرَأُ﴾: أي: يدفع العذاب عن الزّوجة أن تشهد هي الأخرى أربع شهادات بالله عزَّ وجلَّ، تقول: أُشهد الله أنّه كاذب فيما رماني به، وفي الخامسة تقول: غضب الله عليَّ إنْ كان هو من الصّادقين، فإن امتنعت الزّوجة عن هذه الشّهادة فقد ثبت عليها الزّنا، وإنْ حلفتْ فقد تعادلا، ولم يَعُدْ كلّ منهما صالحاً للآخر، وعندها يُفرِّق الشّرع بينهما تفريقاً نهائيّاً لا عودةَ بعده، ولا تحلّ له أبداً، هذا التّشريع فَضْل من الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّه أنهى هذه المسألة على خير ما تنتهي عليه.
الآية رقم (6-7) - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
بعد أن تكلّم الحقّ تعالى عن الّذين يرمون المحصنات، وبيّن حكم القذف، أراد أنْ يُبيِّن حكم الرّمي إنْ كان من الزّوج لزوجته؛ لأنّ الأمر هنا مختلف، وربّما يكون بينهما أولاد منه أو من غيره، فعليه أن يكون مُؤدّباً بأدب الشّرع، ولا يجرح الأولاد برمي أمّهم ولا ذنب لهم، لذلك شرع الحقّ تعالى في هذه الحالة حكماً خاصّاً بها هو الملاعنة، وقد سُمِّيت هذه الآية آية اللّعان، ويُرْوَى أنّ هلال بن أميّة ذهب إلى رسول الله ﷺ وقال له: يا رسول الله إنّي رأيتُ فلاناً مع زوجتي، فإنْ تركتُه لآتي بأربعة شهداء لقضى حاجته وانصرف، وإنْ قتلتُه فقد اعتديْتُ عليه.
ما حَلّ هذا اللّغز؟ وقد شرع الله تعالى حكم الملاعنة أو اللّعان خاصّة لهذه الحالة الّتي يلاحظ فيها الزّوج شيئاً على أهله، وقد يراه بعينيه، لكن لا يستطيع أنْ يأتي عليه بشهود ليُثبِت هذه الحالة؛ لذلك جعله الشّارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشّهادة، ويكرّرها أربع مرّات بدل الشّهداء الأربع، يقول: أشهد الله أنّني صادق فيما رميتُ به امرأتي، يقولها أربع مرّات، وفي الخامسة يقول: ولعنة الله عليَّ إنْ كنتُ كاذباً، وهكذا ينتهي دور الزّوج في الملاعنة.
الآية رقم (5) - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: اختلف العلماء في معنى الاستثناء هنا: أهو استثناء من الفِسْق؟ أم استثناء من عدم قبول الشّهادة؟
ذكرنا أنّ مشروعيّة التّوبة مِنَّة وتكرُّم من الله تعالى؛ لأنّه لو لم تشرع التّوبة كان مَنْ يقع في معصية مرّة، ولا تُقبل منه توبة، يتجرّأ على المعصية ويُكثِر منها، ولم لا؟ فلا دافعَ له للإقلاع، فحين يشرّع الله تعالى التّوبة إنّما يحمي المجتمع من الفاقدين الّذين باعوا أنفسهم، وفقدوا الأمل في النّجاة، فمشروعيّة التّوبة كَرَم، وقبولها كرم آخر، لذلك يقول تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التّوبة: من الآية 118]؛ أي: شرع لهم التّوبة ليتوبوا فيقبل منهم.
﴿وَأَصْلَحُوا﴾: تدلّ هذه الكلمة على أنّ مَنْ وقعتْ منه سيّئة عليه أن يُتبعها بحسنة، وقد ورد في الحديث الشّريف: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا»([1]).
([1]) سنن التّرمذيّ: أَبْوَابُ البِرِّ وَالصِّلَةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي مُعَاشَرَة النَّاسِ، الحديث رقم (1987).
الآية رقم (4) - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ﴾: الرّمي: قذف شيء بشيء.
﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾: جمع مُحْصنة، من الإحصان، وهو الحفظ، ومنه قولنا: فلان عنده حصانة برلمانيّة، يعني: تكفّل القانون بحفظه؛ لذلك إنْ أرادوا محاسبته أو مقاضاته يرفعون عنه الحصانة أوّلاً، ومنه أيضاً كلمة الحصن: وهو الشّيء المنيع الّذي يحمي مَنْ بداخله، والمحصنات: تُطلَق على المتزوّجة؛ لأنّها حصَّنَتْ نفسها بالزّواج أن تميل إلى الفاحشة، وتُطلَق أيضاً على الحرّة؛ لأنّهم في الماضي كانت الإماء هُنَّ اللّائي يدعين لمسألة البغاء، إنّما لا تقدم عليها الحرائر أبداً، والمعنى: يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزّنا.
﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾: وهذا يُسمَّى حدَّ القذف، أن ترمي المرأة بالزّنا وتتّهمها بها، فهذه مشكلة كبيرة جدّاً وخطرة في المجتمع، ففي هذه الحالة عليك أنْ تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميْتها به، فإن لم تفعل يُقام عليك حَدُّ القذف ثمانين جلدة، ثمّ لا ينتهي الأمر عند الجَلْد، إنّما لا تُقبل منك شهادة بعد ذلك أبداً.
﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾: لماذا؟ لأنّه لم يَعُدْ أهلاً لها؛ لأنّه فاسق.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: والفاسق لا شهادةَ له، وهو الّذي يخرج عن الشّرع الحكيم، وهكذا جمع الشّارع الحكيم على القاذف حَدَّ الجلْد، ثمّ أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته، ثمّ وصفه بعد ذلك بالفسق، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة، هذا كلّه ليزجر كلّ مَنْ تسوِّل له نفسه الخوْضَ في أعراض الحرائر واتّهام النّساء الطّاهرات؛ لذلك عبَّر عن القَذْف بالرّمي؛ لأنّه غالباً ما يكون عن عجلة وعدم بيّنة، فالحقّ تعالى يريد أن يحفظ المجتمع من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرّد ذكرها والحديث عنها.
الآية رقم (118) - وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
إنْ هفوتم هفوة، فإيّاكم أن تنسُوا هذه الحقيقة، والجؤوا إلى ربّكم، فإنّه غفّار شرع لكم التّوبة لتتوبوا، والاستغفار لتستغفروا، وهو تعالى أرحم بكم من الوالدة بولدها، وهو خير الرّاحمين.
﴿اغْفِرْ﴾: أي: الذّنوب السّابقة الماضية.
﴿وَارْحَمْ﴾: أي: ارحمنا من أن نقع في الذّنوب فيما بعد، واعصمنا في مستقبل حياتنا من الزّلل.
فتمسَّك بربّك وبمنهجه في كلّ حال، لا يصرفنّك عنه صارف.