﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾: الهداية: الدّلالة والبيان، وتهديه؛ أي: تدلّه على طريق الخير.
والاستفهام يَرِد مرّة لتعلم ما تجهل، أو يرد للتّقرير بما فعلتَ، فالمراد بقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾: أفلم ينظروا إلى الأمم السّابقة وما نزل بهم لـمّا كَذَّبوا رسُل الله عزَّ وجلَّ؟ كما قال جل جلاله في آيةٍ أخرى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾[الصّافّات]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾[الفجر]، ألَا تروْنَ هذه الآيات كلّها في المكذّبين؟ ألَا ترون أنّ الله سبحانه وتعالى ينصر رسُلَه؟ ولم يكُنْ سبحانه وتعالى ليبعثهم ثمّ يتخلّى عنهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصّافّات]، وقال جلّ جلاله: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحجّ: من الآية 40]، وبعد هذا كلّه يُعرِض المكذّبون، وكأنّهم لم يروا شيئاً من هذه الآيات.
وساعة نرى: ﴿كَمْ﴾ فلنعلم أنّها للشّيء الكثير الّذي يفوق الحصر، كما تقول لصاحبك: كم أعطيتُك، وكم ساعدتُك؛ أي: مرّات كثيرة، فكأنّك وكلته ليجيب بنفسه، ولا تستفهم منه إلّا إذا كان الجواب في مصلحتك قطعاً، فمعنى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾؛ أي: يُبيّن لهم ويدلُّهم على القرى الكثيرة الّتي كذَّبت رسلها، وماذا حدث لها وحاق بها من العذاب، وكان عليهم أنْ يتنبّهوا ويأخذوا منهم عِبرة ولا ينصرفوا عنها.
﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾: كقوله: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾[الصّافّات]، فليس تاريخاً يُحكَى إنّما واقع ماثل تروْنَه بأعينكم، وتسيرون بين أطلاله.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾: أي: عجائب لـمَنْ له عقل يفكّر.
﴿النُّهَى﴾: جمع نُهية، وهي العقل، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لـمّا جاءه شابّ يشكو عدم صبره على غريزة الجنس، يريد أن يبيح له الزّنا -والعياذ بالله- أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يُلقِّنه درساً يصرفه عن هذه الجريمة، فماذا قال له؟ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتىً شَابّاً أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ.. مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ([1])، ولنا أنْ نتصوَّر هذا الموقف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي هزّ به ضمير هذا الشّابّ: كذلك النّاس لا يحبّون ذلك لأمّهاتهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأخواتهم، ولا لبناتهم، فالعقل هو الميزان، وهو الّذي يُجرِي المعادلة، ويُوازِن بين الأشياء، وكذلك إنْ جاء بمعنى النُّهى أو اللُّبّ فإنّها تؤدّي المعنى نفسه: فــ ﴿النُّهَى﴾ من النّهي عن الشّيء، واللّبّ؛ أي: حقيقة الشّيء وأصله، لا أنْ يكون سطحيّ التّفكير يشرد منك هنا وهناك، فأولو العقل والفكر يميّزون بين الأشياء.
([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: تتمّة مسند الأَنصار، حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ الصُّدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ عَمْرِو، الحديث رقم (22211).