بعد أن ذكرتْ الآيات طرفاً من سيرة اليهود، وطرفاً من سيرة أهل مكّة تعرَّضتْ لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام، والسّؤال: لماذا إبراهيم عليه السلام بالذّات دون سائر الأنبياء؟ ذلك لأنّه أبو الأنبياء، وجميعهم يتحدّثون أنّهم من نسل إبراهيم عليه السلام، والرّسالات كلّها الّتي أتت بعد سيّدنا إبراهيم عليه السلام تنسب نفسها إليه، فجاءت الآية الكريمة تحلّل شخصيّته عليه السلام، وتُوضِّح صفاته، وتردُّ وتُبطِل مزاعم اليهود في إبراهيم عليه السلام، وصفاته هي:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾: الأُمَّةُ في معناها العامّ: الجماعة، وسياق الحديث هو الّذي يُحدِّد عددها، فنقول مثلاً: أمّة الشّعراء؛ أي: جماعة الشّعراء، وقد تكون الأمّة جماعةً قليلة العدد، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ [القصص: من الآية 23]، فسُمّي جماعةٌ من الرّعاة الّذين كانوا موجودين حينها أمّة؛ لأنّهم خرجوا لغرضٍ واحدٍ، وهو سَقْي دوابّهم، وتُطلَق الأمّة على جنسٍ في مكان، كأمّة العرب، أمّة الرّوم، أمّة الفرس.. إلخ، وقد تُطلِق على جماعةٍ تَتْبَعُ نبيّاً من الأنبياء، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: من الآية 24]، وحين نتوسَّع في معناها نجدها في رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم تشمل الأمم جميعها؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم أُرسِل إلى النّاس كافّة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: من الآية 92]؛ أي: جامعة للأمم كلّها، فالمعنى أنّ إبراهيم عليه السلام يقوم مقام أمّة كاملة؛ لأنّ الكمالات المطلقة لله سبحانه وتعالى وحده، والكمالات الموهوبة من الله عز وجل لخلْقه في الرّسل هي كمالاتٌ بشريّةٌ موهوبةٌ من الله سبحانه وتعالى، أمّا ما دون الرّسل فقد وُزِّعت عليهم هذه الكمالات، فأخذ كلّ إنسانٍ واحداً منها، فهذا أخذ الحلم، وهذا الشّجاعة، وهذا الكرم.. إلخ، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلّا في الرّسل الكرام، فإذا نظرنا إلى إبراهيم عليه السلام وجدنا فيه من المواهب ما لا يُوجد إلّا في أمّةٍ كاملةٍ، كذلك كان رسولنا محمّد صلى الله عليه وسلم حينما حَدَّد موقعه بين رسالات الله سبحانه وتعالى في الأرض، يقول: «الخَيْرُ فيَّ وَفِي أُمَّتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»([1])؛ «الخَيْرُ فيَّ»: هذا هو الكمال البشريّ الّذي أعطاه الله سبحانه وتعالى إيّاه، «وَفِي أُمَّتِي»: أي: أنّ كلّ واحدٍ منهم أخذ جزءاً من هذا الكمال، فكأنّ كماله صلى الله عليه وسلم مُبعثرٌ في أمّته كلّها، لذلك حين نتتبّع تاريخ إبراهيم عليه السلام في كتاب الله سبحانه وتعالى نجد كلّ موقفٍ من مواقفه يُعطِينا خَصْلةً من خصال الخير، وصِفةً من صفات الكمال، فإذا جمعنا هذه الصّفات وجدناها لا توجد إلّا في أمّةٍ بأسْرها، فهو إمامٌ وقدوةٌ جامعةٌ لخصال الخير كلّها، وأنّه عليه السلام يقوم مقام أمّة في عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته.
﴿ قَانِتًا لِلَّهِ﴾: أي: خاشعاً خاضعاً لله سبحانه وتعالى في عبادته.
﴿ حَنِيفًا ﴾: الحنف في الأصل: الميْل، وقد جاء إبراهيم عليه السلام والكون على فسادٍ واعوجاجٍ في تكوين القيم، فمالَ إبراهيمُ عليه السلام عن هذا الاعوجاج، وحَادَ عن هذا الفساد، والله سبحانه وتعالى لا يبعث الرّسل -عليهم السّلام- إلّا إذا عَمَّ الفساد، فميْله عن الاعوجاج والفساد، معناه أنّه كان مستقيماً معتدلاً على الدّين الحقّ، مائلاً عن الاعوجاج، حائداً عن الفساد.
ثمّ يُنهي المولى سبحانه وتعالى الآية بقوله:
﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: وهذه هي الصّفة الرّابعة لخليل الله إبراهيم عليه السلام بعد أن وصفه بأنّه كان أمّةً قانتاً لله حنيفاً، وجميعها تنفي عنه الشّرك بالله عز وجل، فما فائدة نَفْي الشّرك عنه مرّةً أخرى في قوله: ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؟! يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشّرك، فمنه الشّرك الأكبر، وهو أن تجعل لله سبحانه وتعالى شركاء، وهو القمّة في الشّرك، ومنه الشّرك الخفيّ، بأن تجعل للأسباب الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى دَخْلٌ في تكوين الأشياء، فالآية هنا: ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: الشّرك الخفيّ، عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأيت بوجهه أمراً ساءني فقلت: بأبي وأمّي يا رسول الله، ما الّذي أرى بوجهك؟ قال: «أَمْرٌ أَتَخَوَّفُهُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي»، قلت: وما هو؟ قال: «الشِّرْكُ وَشَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ»، قال: قلت: يا رسول الله، أتُشرك أمّتك من بعدك؟ قال: «يَا شَدَّادُ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْساً وَلَا قَمَراً وَلَا وَثَناً وَلَا حَجَراً، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّيَاءُ شِرْكٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»([2])، فعندما تعمل عملاً تريد منه غير الله سبحانه وتعالى فهذا شركٌ خفيٌّ، فالأوصاف السّابقة نفتْ عنه الشّرك الأكبر، فأراد سبحانه وتعالى أن ينفي عنه شركَ الأسباب أيضاً، وهو دقيقٌ خفيٌّ، ولذلك عندما أُلقِيَ عليه السلام في النّار لم يلتفت إلى الأسباب وإنْ جاءت على يد الملَك جبريل عليه السلام، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أمّا إليك فلا، وأمّا إلى ربّي فعلمه بحالي يكفي عن سؤالي، فكانت النّتيجة: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء].
(([1] المقاصد الحسنة للسّخاويّ: حرف الخاء المعجمة، الحديث رقم (468).
([2]) المستدرك على الصّحيحين للحاكم: ج4، ص/366، الحديث رقم (7940).