الآية رقم (19) - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾: الرّسول هنا هو سيّدنا محمد عليه الصّلاة والسّلام، والخطاب هنا لأهل الكتاب.
﴿عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾: يعني على انقطاعٍ من الرّسل، وهو ما يُقارب ستّ مئة عام.
﴿مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾: والبشارة تأتي للمستقبل، فالرّسول يبشّر بالجنّة، والجنّة تأتي لاحقاً بعد البعث والحساب، ونذيرٌ ينذر بعذاب النّار.
﴿فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: وكلّ شيءٍ يخضع لطلاقة قدرته عزَّ وجل؛ لأنّه هو الخالق؛ ولأنّ أمره بين الكاف والنّون، ﴿فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [غافر: من الآية 68].
الآية رقم (20) - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ
﴿وَإِذْ قَالَ﴾: أي حين قال سيّدنا موسى عليه السَّلام: ﴿لِقَوْمِهِ﴾ أي لشعب بني إسرائيل: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾: ويكون شكر النّعمة بذكرها والامتثال لأمر المنعِم وعدم استخدام نعمه في معاصيه، أمّا أن تأخذ النّعمة وتعصي المنعِم فهذا جحودٌ منك، والله سبحانه وتعالى يعبّر عن النّعم المتعدّدة بكلمة نعمة.
﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾: أي كلّما جاءهم داءٌ أرسل لهم نبيّاً لمعالجتهم، فمن النّعم كثرة الأنبياء والرّسل على شعب بني إسرائيل منذ يعقوب عليه السَّلام وأبنائه إلى أن ختمهم الله سبحانه وتعالى بعيسى عليه السَّلام، ويقصد بالملوك داود وسليمان عليهما السّلام.
الآية رقم (21) - يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ
﴿الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾: أي المطهّرة.
﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾: أي فرض عليكم أن تدخلوا هذه الأرض المقدسة، وهنا إرادة الدّخول إرادةٌ تشريعيّةٌ وليست إرادةً كونيّةً. ونستطيع أن نمثّل الإرادة التّشريعيّة بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: من الآية 97]، فهذه تشريعيّةٌ بدليل أنّ أحداثاً كثيرة تقع داخل الحرم، كحالات السّرقة، والمقصود هنا: عليكم أن تؤمِّنوا من يدخل إلى الحرم.
﴿وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾: فإنّ المولى عزَّ وجل لو كتبها لهم لما كان لهم أن يرتدّوا على أدبارهم؛ لأنّه لا رادّ لمشيئته.
وهم خرجوا مع سيّدنا موسى عليه السَّلام الّذي طلب أن يدخل هذه الأرض، والله سبحانه وتعالى كتب عليهم تشريعيّاً أن يدخلوها، ولكنّهم رفضوا.
الآية رقم (22) - قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
وكان الرّدّ أنّ فيها قوماً من الجبّارين الأقوياء، فرفضوا الدّخول حتّى يخرجوا منها، فهم يريدون أن يقطفوا الثّمار دون أيّ جهدٍ.
الآية رقم (23) - قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
قال رجلان من الّذين يخافون الله عزَّ وجل: إنّكم إن دخلتم عليهم الباب فستنتصرون بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن لأحدٍ أن يتوكّل على الله سبحانه وتعالى إلّا إذا كان مؤمناً به سبحانه وتعالى، والإيمان أن تعلم يقيناً أنّه: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد]، وتعلم أنّك إن لم تتّخذ الأسباب فإنّك قد تواكلت ولم تتوكّل، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اعقلها وتوكّل»([1]).
([1]) صحيح مسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، باب المؤمن أمره كلّه خير، الحديث رقم (2999).
الآية رقم (24) - قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
وهنا إساءة الأدب مع الله عزَّ وجل عندما قالوا: اذهب أنت وربّك فقاتلا وعند انتصارك سندخل إليها.
الآية رقم (25) - قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
فهو لا يملك غير نفسه وأخيه، ويقول: يا ربّ افصل بيني وبين الفاسقين الخارجين عن طاعتك.
الآية رقم (26) - قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
هذا دليلٌ على أنّها لا تحقّ لهم أبداً، وأنّها محرّمةٌ عليهم، قال العلماء: إنّها محرّمةٌ عليهم تحريماً دائماً وليس فقط أربعين سنة، ويسيرون على غير طريق الهدى، وكان معهم موسى وهارون اللّذان ماتا وهم تائهون.
الآية رقم (12) - وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ
من هم بنو إسرائيل؟ هم بنو يعقوب عليه السَّلام، ويعقوب هو والد سيّدنا يوسف عليه السَّلام وقد آتاه الله سبحانه وتعالى اثني عشر سبطاً من الأسباط، والسّبط هو الحفيد. ويعقوب هو من نسل إسحاق عليه السَّلام وإسحاق أبوه إبراهيم عليه السَّلام.
الأسباط هم اثنا عشر سبطاً، وكلّ سبطٍ شكّل ذرّيّة كقبيلةٍ معيّنةٍ، لذلك عندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ أي ولكلّ سبطٍ نقيب، والنّقيب هو الّذي ينقّب عن الخفايا، ويقود العمل الإيمانيّ والدّينيّ الّذي لا يكتفي بظواهر الأمور، فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم اثني عشر نقيباً.
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾: هؤلاء النّقباء والأسباط قال لهم الله سبحانه وتعالى: إنّي معكم أنصركم وأرحمكم وأغفر لكم وأدخلكم الجنّة.
﴿لَئِنْ﴾ : اللّام للقسم، وإن: شرطيّة، أقسم الله سبحانه وتعالى واشترط أن يكون معهم في حال: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾.
الآية رقم (13) - فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾: لا يوجد حرفٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى إلّا وله دلالةٌ، فلو قال سبحانه وتعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم) لصحّت في اللّغة، لكن طالما أنّ الكلام قرآنيٌّ فهو الكمال والتّمام، فالمراد هنا: بأيّ نقضٍ من أعمالكم نقضتم؟ أي نقضتم آلاف المرّات وليس مرّةً واحدةً. فلو قال المولى سبحانه وتعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) لكان نقضاً واحداً للميثاق، أمّا هنا فالمراد: بكثرة ما نقضتم ميثاقكم؛ لذلك انتبه لنقطةٍ مهمّةٍ في القرآن الكريم، وهي أنّ الحرف في كتاب الله سبحانه وتعالى يُعطي معنىً ونحن نعتقد أنّه حرفٌ زائدٌ، ولا يوجد شيءٌ زائدٌ في القرآن الكريم على الإطلاق، ونأخذ المثال الآتي: يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: من الآية 17]، وفي آيةٍ أخرى يقول عزَّ وجل: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشّورى]، والفارق وجود اللّام ﴿لَمِنْ﴾ ولا يوجد تكرار في القرآن؛ لأنّ المراد من الآية الأولى: واصبر على ما أصابك من موت حبيبٍ أو مرضٍ أو ما شابه، فليس هناك غريمٌ لك فيما يُصيبك، أمّا الآية الثّانية: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ توجد كلمة (غفر) أي يوجد غريمٌ، وهناك من آذاك، لذلك الصّبر هنا بحاجةٍ لتوكيد، فجاءت لام التّوكيد: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
الآية رقم (14) - وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ﴾: إذاً قسمٌ منهم قالوا بألسنتهم: إنّهم نصارى، ولم يكن وقوفهم إلى جانب السّيّد المسيح عليه السَّلام ونصرتهم له هو مصداق الكلام للفعل، ونسوا حظّاً ممّا ذكّروا به ممّا نزل عليهم.
﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: ما الفارق بين العداوة والبغضاء؟ العداوة تكون نتيجة عداءٍ بين فريقين أو شخصين، أمّا البغضاء فقد تبغض إنساناً وهو لا يدري، فليس بالضّرورة أن يكون لها مقابل. فعندما تركوا المواثيق الّتي أُخذت عليهم ونسوا حظّاً ممّا ذكّروا به، أي خالفوا ما نزل إليهم وما جاء به المسيح عليه السَّلام، أوقع الله سبحانه وتعالى بينهم العداوة والبغضاء فصاروا فرقاً مختلفة.
﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾: وذلك يوم القيامة، يوم توضع الموازين وتنشر الصّحائف.
الآية رقم (15) - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾: والمقصود هو النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾: اليهود أخفوا كثيراً من الأحكام، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيّن لهم ما كانوا يخفون من التّوراة مثل تحريم الرّبا والرّجم.. وغيرها من الأحكام.
﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾: الكتاب المبين هو القرآن الكريم، ومبينٌ أي واضحٌ، فإذا كانت هناك ظلمةٌ وأردت توضيح وبيان الأمر تأتي بنورٍ لكي تبيّن وتوضّح، وهو ليس بنورٍ مادّيٍّ كالكهرباء، وإنّما هو نور القيم التي جاء بها القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى سمّى القرآن الكريم نوراً؛ لأنّه كتابٌ يبيّن وينير ظلمات النّفس وظلمات الأخلاق وظلمات القيم، وهذا النّور لا يمكن أن يكون مادّيّاً، وإنّما هو نورٌ معنويٌّ.
الآية رقم (16) - يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
الله سبحانه وتعالى يهدي بالقرآن الكريم من اتّبع رضوانه سبل السّلام ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور، فنور القيم يتعلّق بالسّلام الدّاخليّ، والسّلام الدّاخليّ لا يعيشه الإنسان وهو محاطٌ بالغمّ والمصائب والابتلاءات، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة]، فالإنسان يرى الأب والأمّ والأخ والجار والصّديق ويعرف أنّهم سيموتون، لذلك يعيش في همّ داخليّ، وعندما يصيبه المرض يعتقد أنّه سيموت ويُلقى تحت التّراب، فيشعر بالغمّ، فهو دائماً يعيش في همّ المرض وفي همّ الرّزق، وإن كان ذا سلطانٍ فإنّه يعيش في همّ بقاء السّلطان، فحياته كلّها تدور ضمن دائرة الابتلاءات، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول: أنا لن أموت، أو: لن أمرض، يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد]، فكيف سيعيش الإنسان في حالة سلامٍ مع نفسه؟ وكيف سيعيش في نور المعرفة وفي نور القيم؟ والجواب: يجب عليه أن يعالج موضوع الهمّ من خلال القيم، فالقرآن الكريم قضى على الهمّ والغمّ، فمن يقول: إنّه مؤمنٌ بالله سبحانه وتعالى، عليه أن يأخذ بما علّمه سبحانه وتعالى حتّى يصل إلى الإيمان الحقيقيّ به جلَّ جلاله ويعلم أنّه لا يضرّ ولا ينفع، ولا يخفض ولا يرفع، ولا يصل ولا يقطع، ولا يحيي ولا يميت إلّا الله سبحانه وتعالى، ويعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولو أنّ الأمّة اجتمعت على أن ينفعوه بشيءٍ لن ينفعوه إلّا بشيءٍ قد كتبه الله سبحانه وتعالى له، ولو اجتمعت على أن يضرّوه بشيءٍ لن يضروه إلّا بشيءٍ قد كتبه الله سبحانه وتعالى عليه، إذاً الله تبارك وتعالى أعطانا النّور والهداية من خلال الكتاب الكريم، وإذا لم يستطع الإنسان التّغلّب على الهمّ فلن يستطيع أن يعيش في سلامٍ مع ذاته، ومن ثمّ لن يعيش في سلامٍ مع الآخرين، وسيكون شرّه أكثر من خيره للغير، ونحن نقول: إنّ دعوة الإسلام هي دعوة خيرٍ، والإيمان يغلب الهمّ ويجعل يقينك بالله وحده جلّ وعلا.
الآية رقم (17) - لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
فالمسيح عيسى ابن مريم عليه السَّلام عبدٌ من عباد اللَّه سبحانه وتعالى، وخَلْقٌ من خلقه، ولو أراد الله سبحانه وتعالى ﴿أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فمن ذا الّذي يمنعه منه؟ وجميع الـموجودات مِلْكُهُ وَخَلْقُهُ وهو القادر على ما يشاء جلّ وعلا، لا يُسأل عمّا يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته.
الآية رقم (18) - وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
عندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ﴾ لا يعني هذا أنّ اليهود كلّهم أو النّصارى كلّهم قالوا هذا القول، بل جزءٌ منهم قال هذا، بدليل أنّ الله سبحانه وتعالى يقول على لسان الرّجل المؤمن من آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ [غافر: من الآية 29]، ومن المعروف أنّه من غير الممكن أن يكون الملك لكلّ القوم، بل يكون لبعض القوم، إذاً بعض اليهود والنّصارى قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، والمولى سبحانه وتعالى يقول: لا أنتم ستدخلون في مشيئة المغفرة ككل البشر.
﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾: فالبشر معرّضون إمّا لنفحات المغفرة وتكفير السّيّئات، وإمّا لنفحات العذاب على الذّنوب، ولن يستطيع أحدٌ أبداً أن يخرج عن مشيئة الله سبحانه وتعالى.
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾: وهنا تدلّ الآية على طلاقة مشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنّه طالما يملك ما بين السّماوات والأرض ويملك المصير والمآل، فله تبارك وتعالى الملك الكامل وطلاقة المشيئة في أن يعذّب أو أن يغفر لكلّ البشر دون استثناء، فلا يمكن أن نقول: نحن أحباء الله سبحانه وتعالى ونحن كذا وكذا، كما قال اليهود وجعلوا من أنفسهم العنصر المميّز عن بقيّة الشّعوب، فقالوا: نحن شعب الله المختار، فكلّ البشر يخضعون إلى مشيئته جلّ وعلا، ويخضعون إلى العذاب والمغفرة منه تبارك وتعالى؛ لأنّه هو جلّ وعلا المالك والمتصرّف في السّماوات والأرض وما فيهما، وإليه المصير والمآل جلَّ جلاله.
الآية رقم (3) - حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
يتحدّث المولى سبحانه وتعالى هنا عن المحرّمات الّتي حرّمها علينا من هذه الأطعمة، وكما قلنا سابقاً: إنّ الحلال بالنّسبة للإنسان هو الكثير، والمحرّم هو جزءٌ يسيرٌ ممّا أحلّ الله سبحانه وتعالى للإنسان، والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نصٌّ قطعيٌّ في التّحريم، وهذا نصٌّ قطعيٌّ في تحريم عدّة أمور:
– ﴿الْمَيْتَةُ﴾: وهي التي فارقت الحياة من دون نقض البنية، لمرضٍ أو بسببٍ من الأسباب المخفيّة علينا، فحرّم الله سبحانه وتعالى أكلها حرصاً على صحّة الإنسان؛ لأنّ الدّاء المخفيّ فيها غير معلومٍ بالنّسبة للإنسان، ونبيّن هنا أنّ الحكمة والعلّة من التّحريم جاءت من الخالق عزَّ وجلّ وهو أعلم بما يُناسب الإنسان، فإن علمنا العلّة والحكمة فنعمّا هي، وإن لم نعلم فنحن نمتثل أمر الله سبحانه وتعالى، هنا الحكمة واضحةٌ من تحريم الميتة؛ وذلك حتّى لا نأكلها بدائها.
الآية رقم (4) - يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
﴿يَسْأَلُونَك﴾: قد تُستخدم للحكم الشّرعيّ وقد تكون لأمورٍ عامّةٍ، أمّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ فلا تكون إلّا لحكمٍ شرعيٍّ.
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾: هنا يسألونك ما هو الحلال؟ والجواب: الحلال واسعٌ جدّاً، فكلّ ما حلّله الله سبحانه وتعالى فهو طيّبٌ، أي كلّ ما لم يكن فيه تحريمٌ فهو طيّبٌ، أمّا الخبيث فهو ما حرّمه عزَّ وجلّ.
﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾: المكلِّب: هو الّذي يدرّب الكلاب أو الطّيور أو الفهود أو النّمور أو الصّقور على الصّيد؛ لأنّه عندما يدرّبه على الصّيد لا يأكل الفريسة إنّما يمسك بها، فهذا الصّيد حلالٌ.
الآية رقم (5) - الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
الآيات السّابقة كانت تتحدّث عن المحرّمات التي منعها الله سبحانه وتعالى عن المسلمين من الطّعام، وهنا ختام هذه الآيات يقول المولى سبحانه وتعالى:
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾: أي منذ هذا التّاريخ أحلّ لكم الطّيّبات، وكلّ ما حلّله الله تبارك وتعالى طيّبٌ، وكما قلنا: إنّ الحلال واسعٌ والحرام ضيّقٌ، والقاعدة الفقهيّة تقول: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نصٌّ بالتّحريم.
﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾: الّذين أوتوا الكتاب لهم صلةٌ بالسّماء فنحن نأكل من طعامهم، ويأكلون من طعامنا، ما لم يكن هناك تحريمٌ من قِبَل الإسلام بالنّسبة لنا، كلحم الخنزير أو غير ذلك فيما ورد فيه نصٌّ بالتّحريم، هذا هو التّعاضد الإيمانيّ، وهذا هو الاتّصال بمن لهم صلةٌ بالسّماء، وإيّاك أن تقاطع أهل الكتاب وتقول: لا آكل من طعامهم، بل كلّ ما هو حلالٌ لنا في طعامهم نأكله، وهذه دعوةٌ إلى العلاقة المتميّزة بين المسلمين وبين أهل الدّيانات السّماويّة بشكلٍ عامّ؛ٍ لأنّها من مشكاةٍ واحدةٍ، ومن ربٍّ واحدٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [الشّورى]، ولا يجوز في أيّ حالٍ من الأحوال أن يكون الدّين سبباً في البغضاء والشّحناء والتّفرقة والتّمزّق، وأهل الرّسالات السّماويّة هم أولى النّاس بالمحافظة على العلاقات الّتي تبني الأسس السّليمة للأخوّة الإيمانيّة، ومن ضمنها يكون العمل الوطنيّ والمواطنة والّتي فيها مساواةٌ بالحقوق والواجبات بين المسلم والمسيحيّ.
الآية رقم (6) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
في كتاب الله سبحانه وتعالى آيةٌ واحدةٌ تتعلّق بالوضوء، وقد دخل أحد العلماء إلى مسجدٍ فوجد الشّيخ الّذي يدرّس في هذا المسجد يشرح أبواب الطّهارة وأبواب الوضوء في اليوم الأوّل ثمّ في اليوم الثّاني ثمّ في الثّالث، ومرّ شهرٌ وكلّما مرّ بالمسجد يسمعه يتحدّث عن موضوع الطّهارة والوضوء، وهو أمرٌ مفروضٌ في الإسلام، فتعجّب هذا العالم وقال له: كلّ القرآن الكريم وهو ستّة آلافٍ ومئتان وستٌّ وثلاثون آيةً، وآيةٌ واحدةٌ فقط تتعلّق بالوضوء، فهل يُعقَل أن نحجز الفكر الدّينيّ فقط في آيةٍ واحدةٍ وندع ستّة آلافٍ ومئتين وستّاً وثلاثين آيةً أخرى؟ إذاً هي آيةٌ واحدةٌ، وعلى المؤمن أن يلتزم بها، ولكن سيقول قائلٌ: كيف انتقل القرآن الكريم إلى الحديث عن الوضوء؟ والجواب: هذا هو الإعجاز؛ لأنّه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 82]، ونحن نريد كتاباً كأنّ بشراً قد كتبه، والمولى سبحانه وتعالى يريد أن نفكّر جيّداً فيما لو كان من عند غير الله سبحانه وتعالى كيف سيكون؟
الآية رقم (7) - وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
الذّكر هو ضدّ النّسيان، فالمولى سبحانه وتعالى جعل في مخّ الإنسان ذاكرة، فهذه الذّاكرة تلتقط الشّعور وتخزّن الأمور، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: من الآية 24]، فالذّكر هو عمدة العبادات، حتّى أنّ الله سبحانه وتعالى أطلق اسم الذّكر على القرآن الكريم، فقال عزَّ وجل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾]الحجر[، وسمّي بالذّكر؛ لأنّ قارئه يعيش مع كلام الله سبحانه وتعالى. والذّكر هو استحضار نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد، فالإنسان عندما يعيش في نعمة الصّحّة وفي نعمة الرّزق والأمان فكأنّما أُعطِي مفاتيح الدّنيا كلّها، فبالشّكر تدوم النِّعَم، ويكون الشّكر بالذّكر، وعندما يذكر الإنسان ربّه فإنّه يمتثل لأوامر الله سبحانه وتعالى.
﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ﴾: الميثاق هو العهد، ويفسّر بأمرين:
1- عهد الإيمان؛ لأنّه ميثاقٌ بين العبد والربّ، وهو ميثاق الإيمان الّذي بموجبه آمنّا بالله عزَّ وجل، وبفضله سندخل الجنّة كما وعد الله سبحانه وتعالى.
2- وهناك ميثاقٌ آخر عندما كنّا في عالم الذّرّ، والميثاق الرّبانيّ هو في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف]، لذلك في كلّ إنسانٍ فطرة إيمان كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما من مولودٍ إلّا يولَد على الفطرة»([1])، ففي هذه الفطرة يوجد الإيمان، لكن لا بدّ من إرسال الرّسل لتعرّف عن المولى سبحانه وتعالى وصفاته وجلاله وعقابه وعن الحلال والحرام.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾: الله سبحانه وتعالى سبحانه وتعالى عليمٌ بما في صدورنا، وأعمالنا تكون حسب نوايانا، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»([2])، وهذا معنى أنّ الله سبحانه وتعالى عليمٌ بذات الصّدور، وعليمٌ بالنّوايا إذا كانت لوجه الله تبارك وتعالى أم لا.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصّبيّ فمات هل يُصلّى عليه؟ وهل يُعرض على الصّبيّ الإسلام؟ الحديث رقم (1292).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الحديث رقم (1).