الآية رقم (6) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

في كتاب الله سبحانه وتعالى آيةٌ واحدةٌ تتعلّق بالوضوء، وقد دخل أحد العلماء إلى مسجدٍ فوجد الشّيخ الّذي يدرّس في هذا المسجد يشرح أبواب الطّهارة وأبواب الوضوء في اليوم الأوّل ثمّ في اليوم الثّاني ثمّ في الثّالث، ومرّ شهرٌ وكلّما مرّ بالمسجد يسمعه يتحدّث عن موضوع الطّهارة والوضوء، وهو أمرٌ مفروضٌ في الإسلام، فتعجّب هذا العالم وقال له: كلّ القرآن الكريم وهو ستّة آلافٍ ومئتان وستٌّ وثلاثون آيةً، وآيةٌ واحدةٌ فقط تتعلّق بالوضوء، فهل يُعقَل أن نحجز الفكر الدّينيّ فقط في آيةٍ واحدةٍ وندع ستّة آلافٍ ومئتين وستّاً وثلاثين آيةً أخرى؟ إذاً هي آيةٌ واحدةٌ، وعلى المؤمن أن يلتزم بها، ولكن سيقول قائلٌ: كيف انتقل القرآن الكريم إلى الحديث عن الوضوء؟ والجواب: هذا هو الإعجاز؛ لأنّه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 82]، ونحن نريد كتاباً كأنّ بشراً قد كتبه، والمولى سبحانه وتعالى يريد أن نفكّر جيّداً فيما لو كان من عند غير الله سبحانه وتعالى كيف سيكون؟

الآية رقم (172) - لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا

الحديث هنا عن العبوديّة لله سبحانه وتعالى، ويفتخر السّيّد المسيح والملائكة والرّسل والخلق جميعاً بنسبتهم إلى العبوديّة لله سبحانه وتعالى.

العبوديّة لله سبحانه وتعالى على عكس العبوديّة للبشر، الّتي هي مذمومةٌ لدينا، فالله سبحانه وتعالى عندما يريد تكريم خلقٍ من خلقه ينسب العبوديّة إليه؛ لأنّ العبودية لله عزَّ وجلّ عطاءٌ، فالله سبحانه وتعالى عزيزٌ مستغنٍ عن عبادة خلقه، وفي الحديث القدسيّ: «يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك ممّا عندي إلّا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثمّ أوفيكم إيّاها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه»([1])، العبوديّة لله سبحانه وتعالى عِزٌّ، فعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرّم النّبيّ محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم أكمل له صفة العبوديّة فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء]، لم يقل: سبحان الّذي أسرى برسوله، ولا سبحان الّذي أسرى بنبيّه، ولا سبحان الّذي أسرى بمحمّدٍ، وإنّما قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ﴾؛ لأنّ العبوديّة لله سبحانه وتعالى هي عطاءٌ تامٌّ منه سبحانه وتعالى

حسبُ نفسي عزّاً بأنّي عبدٌ هو في قدسه الأعزّ ولكن

يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
أنا ألقاه متى وأين أحبُّ

الآية رقم (7) - وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

الذّكر هو ضدّ النّسيان، فالمولى سبحانه وتعالى جعل في مخّ الإنسان ذاكرة، فهذه الذّاكرة تلتقط الشّعور وتخزّن الأمور، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: من الآية 24]، فالذّكر هو عمدة العبادات، حتّى أنّ الله سبحانه وتعالى أطلق اسم الذّكر على القرآن الكريم، فقال عزَّ وجل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾]الحجر[، وسمّي بالذّكر؛ لأنّ قارئه يعيش مع كلام الله سبحانه وتعالى. والذّكر هو استحضار نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد، فالإنسان عندما يعيش في نعمة الصّحّة وفي نعمة الرّزق والأمان فكأنّما أُعطِي مفاتيح الدّنيا كلّها، فبالشّكر تدوم النِّعَم، ويكون الشّكر بالذّكر، وعندما يذكر الإنسان ربّه فإنّه يمتثل لأوامر الله سبحانه وتعالى.

﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ﴾: الميثاق هو العهد، ويفسّر بأمرين:

1- عهد الإيمان؛ لأنّه ميثاقٌ بين العبد والربّ، وهو ميثاق الإيمان الّذي بموجبه آمنّا بالله عزَّ وجل، وبفضله سندخل الجنّة كما وعد الله سبحانه وتعالى.

2- وهناك ميثاقٌ آخر عندما كنّا في عالم الذّرّ، والميثاق الرّبانيّ هو في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف]، لذلك في كلّ إنسانٍ فطرة إيمان كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما من مولودٍ إلّا يولَد على الفطرة»([1])، ففي هذه الفطرة يوجد الإيمان، لكن لا بدّ من إرسال الرّسل لتعرّف عن المولى سبحانه وتعالى وصفاته وجلاله وعقابه وعن الحلال والحرام.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾: الله سبحانه وتعالى سبحانه وتعالى عليمٌ بما في صدورنا، وأعمالنا تكون حسب نوايانا، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»([2])، وهذا معنى أنّ الله سبحانه وتعالى عليمٌ بذات الصّدور، وعليمٌ بالنّوايا إذا كانت لوجه الله تبارك وتعالى أم لا.

 


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصّبيّ فمات هل يُصلّى عليه؟ وهل يُعرض على الصّبيّ الإسلام؟ الحديث رقم (1292).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الحديث رقم (1).

الآية رقم (173) - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا

والضّدُّ يُظهِر حُسنَه الضّدُّ، الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وبالمقابل الّذين كفروا واستكبروا.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾: الأجر على قدر العمل، لكنّه سبحانه وتعالى يزيدهم من فضله، والفضل فوق العدل، قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمة وفضل»([1])، رحمة الله سبحانه وتعالى هي فضلٌ فوق العدل، فالعدل عن العمل والفضل من رحمة الله تبارك وتعالى. والإيمان يحتاج إلى ترجمة، أي إلى عملٍ صالحٍ، فالإيمان دون عملٍ صالحٍ لا يُعدّ إيماناً، قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستّون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق»([2])، حتّى إماطة الأذى عن الطّريق هي شعبةٌ من شعب الإيمان، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «تبسّمك في وجه أخيك لك صدقة»([3])، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»([4])، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به»([5])، فعناصرُ الإيمان كثيرةٌ كما بيّن المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، وكلّها من خلال الأعمال الصّالحة، فلا إيمان بالقلب من دون أن يصدّقه العمل.

الآية رقم (8) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

الأوامر الإلهيّة والتّكاليف الإيمانيّة تأتي بناءً على عقدٍ إيمانيّ، فالله سبحانه وتعالى عندما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بعدها سيأتي تكليفٌ إيمانيٌّ؛ لأنّك طالما آمنت بأنّه الخالق الموجِد وأنّ الرّجوع إليه متمثّلٌ في جنّةٍ أو نارٍ فعليك أن تمتثل التّكاليف الإلهيّة، أما عند قوله سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فتكون قضايا عامّة لكلّ البشر.

الآية هنا وردت بصيغة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ فهناك أمران: أوّلهما أن نكون قوّامين لله سبحانه وتعالى، وثانيهما أن نكون شهداء بالقسط.

وقوّام: مبالغة اسم فاعل من قائم، وسنوضّح المعنى بالمثال الآتي: إذا قام أحدهم بصنع بابٍ خشبيٍّ فنقول عنه: ناجر، ولكن إذا استمرّ بالعمل نفسه نقول: نجّار، تماماً كقائم وقوّام، فعندما نقول: قائمٌ على أمرٍ، خلاف قوّام، أي أنّه يجب علينا باستمرار أن نكون قوّامين بأمر الله سبحانه وتعالى، أي متمثّلين لأوامره سبحانه وتعالى مؤكّدين على إتيانها. وقد ذكرنا عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النّساء: من الآية 34]، أي أنّ الرّجل قائمٌ على المرأة بكلّ أمورها، وفي خدمتها والإشراف على مال النّفقة، وهذه ليست درجة تفضيلٍ على المرأة بل تكليف.

الآية رقم (174) - يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا

الخطاب الآن للبشريّة جمعاء، الرّسالات السّماويّة السّابقة كانت تأتي لمناطق وأقوامٍ منفصلةٍ، حيث لا يوجد طرق اتّصالٍ ولا مواصلاتٍ، فلا يعلم قومٌ عن قومٍ شيئاً، ينزل نبيٌّ هنا ونبيٌّ هناك، والأدواء متعدِّدةٌ لذلك كان الرّسل عليهم السَّلام يأتون بعلاجاتٍ متعدّدةٍ للأقوام حتّى أنزل الله سبحانه وتعالى رسالة الإسلام على النّبيّ محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم للنّاس جميعاً؛ لأنّ البشريّة قد اكتمل رُشدها، وبدأت بالتّطوّر العلميّ، فأصبح العالم كلّه كبقعةٍ واحدةٍ، وطرق المواصلات مؤمّنةٌ بينه، فكان الخطاب موجّهاً للنّاس جميعاً، وكأنّ الإسلام سبق العالم.

﴿قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ﴾: البرهان هو الإعجاز الدّالّ على صدق المبلّغ عن الله سبحانه وتعالى، فكلّ نبيٍّ جاء معه إعجازٌ دالٌّ على صدق بلاغه عن الله سبحانه وتعالى ، مثال: نوح عليه السَّلام كانت السّفينة هي المعجزة الّتي أنجت من ركب فيها وغرق كلّ من لم يركب فيها، صالح عليه السَّلام كانت معجزته النّاقة، إبراهيم عليه السَّلام لم تحرقه النّيران عندما أُلقِي فيها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أفقدها خاصّيتها، موسى عليه السَّلام من معجزاته العصا حيث كان يضرب بها الحجر فينفجر، وضرب بها البحر فانفلق، ليست القضيّة قضيّة عصى وإنّما هي قضيّة معجزةٍ، وهذا معنى برهان

الآية رقم (9) - وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ

﴿وَعَدَ اللَّهُ: النّاس من عالم الأغيار، فربّما يعد أحدهم شخصاً بأمرٍ وفي الغد تتوفّاه المنيّة أو قد يفتقر..، فهو عالم أغيار، أمّا الحيّ الّذي لا يموت، الرّزّاق، القادر، فإذا وعد فإنّ وعده مُحقّقٌ.

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: لم يكتفِ الله سبحانه وتعالى بذكر الإيمان فقط، بل أتبعه بترجمة الإيمان وذلك من خلال وظائف الإيمان الّتي تَرِد بعد التّكليف الإيمانيّ (افعل) و(لا تفعل) وهذا حلالٌ وهذا حرامٌ.

 ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ: قبل ذكر الجنّة أكّد الله سبحانه وتعالى على درء المفسدة، فدرء المفاسد هي دعوة النّاس جميعاً إلى المغفرة، فإن تاب العبد فإنّ الله عزَّ وجل أعدَّ له مغفرةً يتبعها الأجر العظيم وهو لقاء الله جلَّ جلاله وجنان النّعيم، فدائماً في وعد الجنّة تتقدّم المغفرة، وهذا مثالٌ يوضّح الأمر: فلو أنّ أمامك شخصين، أحدهما سيلقي عليك بحجرٍ والآخر سيلقي تفاحةً، فأنت تلتفت إلى صدّ الحجر قبل أخذ التّفاحة؛ لأنّ درء المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح، وهذه قاعدةٌ فقهيّةٌ.

الآية رقم (175) - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا

أي الّذين آمنوا وتمسّكوا واستمسكوا بهذا القرآن الكريم، بهذا النّور، بهذه الهداية، سيدخلون برحمات الله سبحانه وتعالى وعطائه وفضله سبحانه وتعالى، وسيزيدهم في الهداية، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمّد].

﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾: ويهديهم الصّراط المستقيم، هذا الصّراط الّذي يؤدّي إلى الجنّة بإذن الله تبارك وتعالى.

الآية رقم (10) - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

وهذا من عدله سبحانه وتعالى، وحكمته وحكمه الّذي لا يجور فيه، بل هو الحَكَم العدل الحكيم القدير.

الآية رقم (176) - يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾: هي إرادة معرفة حكمٍ شرعيٍّ، وقد ورد في القرآن الكريم بطريقين:

1- يستفتونك كهذه الآية، أي يسألون عن حكمٍ شرعيٍّ.

2- وتأتي: يسألونك، وهي إمّا أن تأتي لمعرفة حكمٍ شرعيٍّ أو غير حكمٍ شرعيٍّ، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ [البقرة: من الآية 189]،  سألوه: ما بال الهلال يا محمّد يبدو صغيراً ثمّ يكبر ثمّ يعود صغيراً؟ فهذا ليس حكماً شرعيّاً.

لكن عندما يأتي السّؤال: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ فهي إرادة معرفة حكمٍ شرعيٍّ، لذلك عندما يعطي الإنسان فتوى فإنّه يعطيها نيابةً عمّا جاء من أحكامٍ شرعيّةٍ، وليس هو من يعطي الحكم، وإنّما يبيّن الحكم الشّرعيّ.

﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾: أي يعطيكم العلم بالحكم الشرعيّ في الكلالة. والكلالة تعني من ليس له أبٌ -أي متوفّى- ولا ولدٌ، فجاءت كلمة الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس، أي الأقارب المحيطين، فمن ليس له أصلٌ (أبٌ) ولا فرعٌ (ابنٌ)، فما هو الحكم بالنّسبة للمواريث إن كان له أقرباء؟

الآية رقم (11) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:  لا شكّ أنّ الله سبحانه وتعالى عندما يخاطب المؤمنين فإنّه يخاطبهم بتكاليف إيمانيّة؛ لأنّ العقد بين المؤمن وبين الرّبّ هو عقد الإيمان، أنّي آمنت بالله خالقاً وآمنت به موجِداً وآمنت به محيياً ومميتاً؛ لذلك عليّ أن ألتزم بموجب هذا العقد والميثاق.

﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: هنا يتحدّث المولى سبحانه وتعالى عن النِّعم، وكنا قد تحدّثنا عن الانتقال ما بين النّعمة والمنعِم، وعلى الإنسان أن يكون دائماً في ذكر المنعِم سبحانه وتعالى، وأن يكون سبحانه وتعالى حاضراً في ذهنه، وكما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»([1])، هنا الآية تتعلّق بنعمة بيّنها المولى عزَّ وجل:

﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾: المراد هنا بسط اليد بالإيذاء لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك عندما أراد يهود بني النّضير أن يلقوا حجراً كبيراً على النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبره سيّدنا جبريل عليه السَّلام بذلك ونبّهه من هذا الاعتداء الآثم لليهود.

الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:  قلنا: إنّ الله سبحانه وتعالى عندما يبدأ بالأمر التّكليفيّ يخاطب المؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وهنا يُخاطب المؤمنين بالاسم الموصول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ﴾، ولم يقل: (يا أيّها المؤمنون)، وهناك فارقٌ كبير، فلو قال: (يا أيّها المؤمنون)، فهذا يعني أنّ الإيمان قد تمّ وانتهى، أمّا عندما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فهذا يُعطي معنى أنّ الإيمان عملٌ مستمرٌّ، ولا يمكن أن ينتهي، فهو ليس أمراً عابراً، ولكنّه يتجدّد حتّى يُنَفَّذ المطلوب، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النّساء]، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستّون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق»([1])، فإماطة الأذى عن الطّريق من الإيمان، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»([2])، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به»([3])، إذاً عناصر الإيمان هي عناصر فعل، فدائرة الإيمان ليست دائرة اعتقاديّة بلا عمل، بل لا بدّ للإيمان من عملٍ يصدِّقه، لذا فإنّ الإيمان ليس أمراً عابراً، ولكنّه يتجدّد حتّى تُنفَّذ كلّ التّكاليف الإلهيّة، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النّساء: من الآية 136]، أي استمرّوا في فعل الإيمان، وتحويل دائرة العقيدة من كلام إلى أفعال هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل.

الآية رقم (2) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾: أي لا تتهاونوا بشعائر الله سبحانه وتعالى. وعندما يُطلق لفظ الشّعيرة يُراد به شعائر الحجّ، والشّعيرة: هي الأمر التّعبديّ الّذي أمر الله سبحانه وتعالى به عباده.

﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾: أي الأشهر الحُرُم، فلا تتهاونوا فيما حرّم الله سبحانه وتعالى في ذلك، فعندما تمتثل لأمر الله سبحانه وتعالى فهناك ناحيةٌ تعبّديّةٌ في هذا بغضّ النّظر عن العلّة علمتها أم لم تعلمها، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تتهاونوا فيما يتعلّق بالمحرّمات بالنّسبة للأشهر الحُرُم ما كان من قتالٍ أو صيدٍ أو لباسٍ أو… إلى آخر الأمور.

﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾: الهدي: ما كان يُهدى إلى الكعبة، ففي الماضي كانوا يأتون بالهدي إلى الكعبة ليأكلوا اللّحم والطّعام في مكان البيت الحرام في ذلك الوقت، فهذا يسمّى الهدي.

الآية رقم (158) - بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

القرآن الكريم لم يقل: إنّ السّيّد المسيح عليه السَّلام قد مات، قد يقول قائلٌ: كيف يحصل هذا؟ هناك ضجّةٌ في ميلاده فمن الطّبيعيّ أن تكون هناك ضجّةٌ فيما يتعلّق بوفاته، ضجّةٌ في ميلاده حيث كانت ولادته بمعجزةٍ، وارتفع بمعجزةٍ، ارتفع بــــ: ﴿كُن﴾ كما وُلِد بــــ: ﴿كُن﴾، بالنّسبة للمسلمين هذه عقيدةٌ، فكلّنا يعلم أنّ القرآن الكريم ينصّ على أنّ السّيّد المسيح عليه السَّلام رُفع إلى السّماء، وهذا تكريمٌ له، ونحن نعيش مع الإخوة النّصارى كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، لكن المهمّ هل يوجد انتقاصٌ من قدر السّيّد المسيح عليه السَّلام أو أنّه تعظيمٌ وتكريمٌ وتشريفٌ له بأنّ الله سبحانه وتعالى أثبت غير ما قاله اليهود بافترائهم على السّيّدة مريم وقولهم بهتاناً عظيماً؟ لقد أثبت منذ أن كانت مريم طفلةً كيف كانت قدّيسةً في المحراب، وأثبت أّنها ولدت من دون زوجٍ، فجبريل عليه السَّلام نفخ فيها من روح الله سبحانه وتعالى فكان الميلاد العظيم المعجزة للسّيّد المسيح عليه السَّلام، فنحن آمنّا بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن الكريم وبكلّ ما جاء به، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النّساء: من الآية 122]، فعقيدة المسلم بالنّسبة للسّيّد المسيح عليه السَّلام واضحةٌ ولا نخفيها على أحدٍ، وموجودةٌ في القرآن الكريم، والجميع يقدّر ويحترم ما نزل في كتاب الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (169) - إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا

إلّا طريقاً واحداً هم الّذين اختاروه وليس الله سبحانه وتعالى الّذي أخذهم إليه، اختاروه بكفرهم وبظلمهم، والله سبحانه وتعالى عندما يتحدّث عن الظّلم يقول في الحديث القدسيّ: «يا عبادي إنّي حرمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا»([1])، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السّماء، ويقول الرّبّ عزَّ وجلّ: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين»([2])،  قضيّة الظّلم هي قضيّةٌ كبيرةٌ جدّاً، والظّلم يعني إبعاد الإنسان عن حقّه.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآدب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).
([2]) سنن التّرمذيّ: كتاب صفة الجنّة، باب صفة الجنّة ونعيمها، الحديث رقم (2526).

الآية رقم (159) - وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا

(إن) هنا النّافية وليست النّاهية، ما من أحدٍ من أهل الكتاب إلّا سيؤمن به قبل موته ويكون عليه شهيداً يوم القيامة، فهو سيعود وسينزل وهذا ما وعد به الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في كثيرٍ من الأحاديث الصّحيحة، وأنّه سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تقوم السّاعة حتّى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً»([1])، وهناك الكثير من الرّوايات الّتي تذكر أنّه سينزل جانب مئذنة المسيح عليه السَّلام في الجامع الأمويّ الكبير في دمشق، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «… إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفّيه على أجنحة ملكين …»([2]).

 


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المظالم، باب 32، الحديث رقم (2344).
([2]) صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط السّاعة، باب 20، الحديث رقم (2937).

الآية رقم (160) - فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا

الحديث هنا أنّ الّذي افترى وكذّب وكفر بالسّيّد المسيح عليه السَّلام هم اليهود، والّذي آذى السّيّدة مريم بأقواله وأفعاله هم اليهود، فاليهود إلى هذه اللّحظة هم مصدر الشّرور في العالم بما يفعلونه بالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وبقتلهم للفلسطينيّ المسلم والنّصرانيّ، واستهدافهم الإسلام والنّصرانيّة؛ لأنّهم يؤمنون بأنّهم شعب الله المختار، وكلّ ما سواهم ودونهم ليسوا بمرتبتهم عند الله سبحانه وتعالى، هذه النّظرة الفوقيّة العنصريّة الصّهيونيّة اليهوديّة الخرافيّة هي الّتي جعلتهم عبر عصورهم وتاريخهم في كلّ شعبٍ وفي كلّ أمّةٍ وفي كلّ أرضٍ وَطَؤوها أو وُجِدوا فيها كالجراثيم تتسلّل إلى أجساد هذه الشّعوب، وقال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة]،  وبيّن القرآن الكريم في سورة (مريم) كيف واجههم السّيّد المسيح عليه السَّلام وهو في المهد، ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم]، وفي قراءةٍ أخرى (مَن تحتَها) أي أنّ السّيّد المسيح عليه السَّلام من أوّل ولادته نادى السّيّدة العذراء تسليةً لقلبها: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم]

الآية رقم (150) - إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً

قضيّة الإيمان هي قضيّةٌ كليّةٌ لا أبعاض فيها، وهي أن تؤمن بالله سبحانه وتعالى والرّسل كافّة، فالأنبياء عليهم السَّلام اصطفاهم المولى عزَّ وجل من خلقه ليوحي إليهم بدينه وشريعته عن طريق الملائكة عليهم السَّلام، فهناك وحدة الدّين كما قال سبحانه وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشّورى: من الآية 13]، فوحدة العقيدة واختلاف الشّرائع يكون عبر مرّ الزّمن حسب تغيّر أحوال الإنسان.

إذاً قضيّة الإيمان هي قضيّةٌ كليّةٌ لا تتجزّأ إلى أبعاض، فلا يمكن أن تقول: أؤمن بالله سبحانه وتعالى ولا أؤمن بهذا الرّسول، وهناك بعض الدّعوات الآن ومن قبل للابتعاد عن الإيمان بالرّسل عليهم السَّلام، حيث يقولون: نؤمن بالله سبحانه وتعالى ولا نؤمن بالرّسل، لماذا؟ لأنّ الإيمان بالرّسل عليهم السَّلام فيه تكليفٌ.

الآية رقم (161) - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾: الرّبا حرامٌ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: من الآية 275]، لماذا؟ لأنّ الرّبا ما يحصل عليه الإنسان من جرّاء استغلاله لحاجة غيره، وقد حرّم الله سبحانه وتعالى الرّبا على اليهود ومع ذلك يتعاملون به.

﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾: إمّا عن طريق السّرقة أو عن طريق الرّشوة والغش، كلّ هذه الطّرق في الاحتيال لأكل الأموال كان اليهود يستخدمونها، فحُرّمت عليهم طيّباتٌ كانت قد أُحلّت لهم.

فالله سبحانه وتعالى حلّل لهم الطّيّبات، لكن بظلمهم وأكلهم الرّبا وأموال النّاس بالباطل حرّم عليهم هذه الطّيّبات الّتي أُحلّت لهم.

 ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾: بالإضافة لتحريم طيّباتٍ أُحلّت لهم أعدّ الله سبحانه وتعالى لهم في اليوم الآخر عذاباً أليماً في جهنّم وبئس المصير.

الآية رقم (151) - أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا

دائماً مع الإشراك والكفر بالله سبحانه وتعالى والجحود بأوامره وبرسله يكون الجزاء في الآخرة العذاب المهين