الآية رقم (22) - فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ

﴿فَمَكَثَ﴾: أقام واستقرّ.

﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾: مدّة يسيرة، فلم يتأخّر كثيراً؛ لأنّه يعلم أنّه تخلّف عن مجلس سليمان عليه السّلام، وذهب دون إذنه؛ لذلك تعجَّل العودة، وما إنْ وصل إليه إلّا وبادره:

﴿فَقَالَ﴾: بالفاء الدّالّة على التّعقيب؛ لأنّه رأى سليمان عليه السّلام غاضباً مُتحفِّزاً لمعاقبته، لذلك بادره قبل أنْ ينطق، وقبل أنْ ينهره.

﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾: الإحاطة: إدراك المعلوم من جوانبه كلّها، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾[النّساء: من الآية 126]، ومنه: الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدِّده، ومنه: يحتاط للأمر، ومحيط الدّائرة الّذي يحيط بالمركز من كلّ ناحية إحاطة مستوية بأنصاف الأقطار، والمعنى هنا: عرفتُ ما لم تعرف، وهذا الكلام مُوجَّه إلى سليمان عليه السّلام الّذي ملَك الدّنيا كلّها، وسخَّر الله عزَّ وجلَّ له كلّ شيء؛ لذلك ذُهل سليمان عليه السّلام من مقالة الهدهد، وتشوَّق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو، فهل يُعَدُّ قول الهدهد لسليمان عليه السّلام: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾  نقصاً في سليمان عليه السّلام؟ الجواب: لا، إنّما يُعَدُّ تكريماً له؛ لأنّ ربّه تعالى سخَّر له مَنْ يخدمه، وفَرْقٌ بين أن تفعل الشّيء وبين أن يُفعل لك، فحين يفعل لك، فهذه زيادة سيادة، وعُلُوّ مكانة. ثمّ يستمرّ الهدهد:

﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾: أوّلاً: نقف عند جمال التّعبير في: (سبأ) و(نبأ)، فبينهما جناس ناقص، وهو من المحسّنات البديعيّة في لغتنا، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد، والجناس هو اتّفاق الكلمتين في الحروف، واختلافهما في المعنى، كما في قول الشّاعر:

رَحَلْتُ عَنِ الدِّيَـــــــارِ لكُم أَسِــــــــــــــيرُ                     . وَقَلْبـــــــــي في محبّتــــكُمْ أَســـــــــــــــــــــير
.

ومن الجناس التّامّ في القرآن الكريم: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الرّوم: من الآية 55]، فالتّعبير القرآنيّ: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ تعبير جميل لفظاً، دقيق مَعنىً، ألَا تراه لو قال: (وجئتك من سبأ بخبر) لاختلَّ اللّفظ والمعنى معاً؛ لأنّ الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر، أمّا النّبأ فلا تُقال إلّا للخبر العجيب المهمّ اللّافِت للنّظر، كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾[النّبأ]، والجناس لا يكون جميلاً مؤثّراً إلّا إذا جاء طبيعيّاً غير مُتكلَّف، ومثال ذلك هذا الجناس النّاقص في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾[الهمزة]، فقد ورد اللّفظ المناسب مُعبِّراً عن المعنى المراد دون تكلّف، فالهُمَزة: هو الّذي يعيب بالقول، واللّمزة: الّذي يعيب بالفعل، فالقرآن الكريم لا يتصيَّد لفظاً ليُحدِث جناساً، إنّما يأتي الجناس فيه طبيعيّاً يقتضيه المعنى، ومن ذلك الحديث الشّريف: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ»([1])، فبيْن (الخيل) و(الخير) جناس ناقص، وقد يأتي المحسِّن البديعيّ مُضطرباً مُتكلَّفاً، يتصيّده صاحبه، فلا يكون جميلاً.

ونلحظ أنّ الهدهد لم يُعرِّف سبأ ما هي، وهذا دليل على أنّ سليمان عليه السّلام يعرف سبأ، وما فيها من ملك، إنّما لا يعرف أنّه بهذه الفخامة وهذه العظمة.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابٌ: الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الحديث رقم (2850).

«فَمَكَثَ» الفاء استئنافية وماض فاعله مستتر

«غَيْرَ بَعِيدٍ» الظرف متعلق بمكث وبعيد مضاف إليه

«فَقالَ» الجملة مستأنفة

«أَحَطْتُ» ماض وفاعله والجملة مقول القول

«بِما» متعلقان بأحطت

«لَمْ تُحِطْ» المضارع مجزوم بلم والجملة صلة

«بِهِ» متعلقان بتحط

«وَجِئْتُكَ» ماض وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة

«مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ» كلاهما متعلقان بجئتك

«يَقِينٍ» صفة