الآية رقم (18) - وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ

يقول تعالى عن الماء: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾، فهل الماء مَقرُّه السّماء؟ الجواب: لا، الماء مقرُّه الأرض، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصّلت]، لـمّا استدعى الخالق عزَّ وجلَّ الإنسان إلى هذا الوجود جعل له في الأرض مُقوِّمات استبقاء حياته من الهواء والقوت والماء، والإنسان كما قلنا: يستطيع أن يصبر على الطّعام، وصبره أقلّ على الماء، لكن لا صبرَ له على الهواء؛ لذلك شاءت قدرة الله تعالى ألّا يُملّكه لأحد؛ لأنّه مُقوِّم الحياة الأوّل، فالغلاف الجوّيّ والهواء المحيط بالأرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله جلَّ جلاله: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ [فصّلت: من الآية 10]، بدليل أنّهم حينما يخرجون عن نطاق الأرض يمتنع الهواء.

ومن حكمة الخالق عزَّ وجلَّ وقدرته أنْ جعل الماء على الأرض مالحاً؛ لأنّ الملح أساس في صلاح الأشياء الّتي يطرأ عليها الفساد، فالماء العذب عُرضة للتّغيُّر والعطن، وبالملح نصلح ما نخشى تغيُّره فنضعه على الطّعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود.. إلخ، فأصل الماء في الأرض، لكن ينزل من السّماء بعد عمليّة البَخْر الّتي تُصفّيه فينزل عَذْباً صالحاً للشّرب والرّيّ، وقلنا: إنّ الخالق تعالى جعل رقعة الماء على الأرض أكبر من رقعة اليابسة، فثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة محيطات وبحار حتّى تتّسع رقعة البَخْر، ويتكوّن المطر الّذي يكفي حاجة أهل الأرض، ومن رحمة الله تعالى بنا أن ينزل الماء من السّماء ﴿بِقَدَرٍ﴾، يعني: بحساب وعلى قَدْر الحاجة، فلو نزل مرّة واحدة لأصبح طوفاناً مُدمّراً، كما حدث لقوم نوح ولأهل مأرب، وفي موضع آخر يقول جلَّ جلاله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر].

﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾: لأنّنا نأخذ حاجتنا من ماء المطر، والباقي يتسرّب في باطن الأرض، كما قال تعالى: ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾[الزّمر: من الآية 21]، ومن عجيب قدرة الله عزَّ وجلَّ في المياه الجوفيّة أنّها تسير في مسارب مختلفة، بحيث لا يختلط الماء العَذْب بالماء المالح مع ما يتميّز به الماء من خاصّيّة الاستطراق، والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب، فقد يجدون الماء العَذْب بجوار المالح، بل وفي وسط البحر؛ لأنّها ليست مستطرقة، إنّما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض، والمياه الجوفيّة مخزون طبيعيّ من الماء نُخرجه عند الحاجة، ويُسعِفنا إذا نَضُبَ الماء العَذْب الموجود على السّطح، ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾، ليكون احتياطيّاً لحين الحاجة إليه، فإذا جَفَّ المطر تستطيعون أن تستنبطوه.

ثمّ يُذكِّرنا الحقّ تعالى بقدرته على سَلْب هذه النّعمة:

﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾: يعني: سيروا في هذه النّعمة سَيْراً لا يُعرِّضها للزّوال، وقال في موضع آخر: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك]، وحين نعدّ نِعَم الله تعالى الّتي امتنّ علينا بها بداية من نعمة الماء: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾، نجدها أيضاً سبعة، قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس رضي الله عنهما: يا ابن عبّاس أتعرف متى ليلة القدر؟ فقال ابن عبّاس: أغلب الظّنّ أنّها ليلة السّابع والعشرين، كأنّ وحدة الزّمن الّتي توجد بها ليلة القدر هي هذه العشر الأواخر من رمضان، وكأنّها بهذا المعنى ليلة السّابع، وهذه أيضاً من أسرار هذا العدد، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[يوسف: من الآية 76].

«وَأَنْزَلْنا» الواو عاطفة ماض وفاعله

«مِنَ السَّماءِ» متعلقان بأنزلنا.

«ماءً» مفعول به

«بِقَدَرٍ» متعلقان بأنزلنا والجملة معطوفة

«فَأَسْكَنَّاهُ» ماض وفاعله ومفعوله والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها

«فِي الْأَرْضِ» متعلقان بأسكناه

«وَإِنَّا» واو الحال وإن واسمها

«عَلى ذَهابٍ» متعلقان بقادرون

«بِهِ» متعلقان بذهاب

«لَقادِرُونَ» اللام لام المزحلقة وقادرون خبر مرفوع بالواو والجملة حالية