سبق أن عرفنا أنّ الخالق عزَّ وجلَّ خلق الإنسان الأوّل، وهو آدم عليه السلام من طين، وخلق منه زوجه، ثمّ بالتّزاوج جاء عامّة البشر، كما قال تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾[النّساء: من الآية 1]، ومسألة خَلْق السّماء والأرض والنّاس مسألة احتفظ الله عزَّ وجلَّ بها، ولم يُطلِع عليها أحد، كما قال تعالى﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف]، ولن نُصْغي إلى هؤلاء المضلّين في كلّ زمان ومكان، الّذين يدَّعون العلم والمعرفة، ونحن نأخذ ما جاء في القرآن الكريم.
﴿الْإِنْسَانَ﴾: كلمة الإنسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنّى والجمع، والمذكّر والمؤنّث، فكلّ واحد منّا إنسان، بدليل أنّ الله تعالى استثنى من المفرد اللّفظ جمعاً في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر].
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا﴾: أوجدنا من عدم، وسبق أن قلنا: إنّ الله تعالى أثبت للبشر صفة الخَلْق أيضاً مع الفارق بين خَلْق الله عزَّ وجلَّ من عدم وخَلْق البشر من موجود، وخَلْق الله تعالى فيه حركة وحياة فينمو ويتكاثر، أمّا خلق البشر فيجمد على حاله لا يتغيّر؛ لذلك وصف الحقّ تعالى ذاته فقال: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[المؤمنون: من الآية 14]، أمّا قَوْل القرآن الكريم حكايةً عن عيسى عليه السّلام: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾[آل عمران: من الآية 49]، فهذه من خاصّيّاته عليه السلام، والإيجاد فيها بأمر من الله تعالى يُجريه على يد نبيّه ﷺ.
فالمعنى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: الإنسان الأوّل، وهو آدم عليه السلام.
﴿مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾: والسّلالة: خلاصة الشّيء تُسَلُّ منه كما يُسَلُّ السّيف من غِمْده، فالسّيف هو الأداة الفاعلة، أمّا الغِمْد فهو مجرّد حافظ وحامل لهذا الشّيء المهمّ، فالسّلالة هي أجود ما في الشّيء، وقد خلق الله تعالى الإنسان الأوّل من أجود عناصر الطّين وأنواعه، وهي زُبْد الطّين، فلو أخذنا قبضة من الطّين وضغطنا عليها بين أصابعنا يتفلَّتْ منها الزّبد، وهو أجود ما في الطّين ويبقى في قبضتنا بقايا رمال وأشياء خشنة، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ ﷺ فِي هِجَاءِ الـمُشْرِكِينَ قَالَ: «كَيْفَ بِنَسَبِي؟»، فَقَالَ حَسَّانُ: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِينِ([1])، وتُطلَق السّلالة على الشّيء الجيّد، فيقولون: فلان من سلالة كذا، وفلان سليل المجد، يعني: في مقام المدح، حتّى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويُسجِّلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها، ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربيّة الأصيلة.
وقد أثبت العلم الحديث صِدْق هذه الآية، فبالتّحليل المعمليّ التّجريبيّ أثبتوا أنّ العناصر المكوِّنة للإنسان هي عناصر الطّين نفسها، وهي ستّة عشر عنصراً، تبدأ بالأكسجين، وتنتهي بالمنغنيز، والمراد هنا التّربة الطّينيّة الخصْبة الصّالحة للزّراعة؛ لأنّ الأرض عامّة بها عناصر كثيرة، قالوا: مئة وثلاثة عشر عنصراً.
(([1] صحيح البخاريّ: كتاب المناقب، بَابُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا يُسَبَّ نَسَبُهُ، الحديث رقم (3531).