قال سبحانه وتعالى في الآية السّابقة: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، فما هي الدّلالة على أنّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو إله واحد؟ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نصل إلى الإيمان به من خلال العقل، وأن نستدلّ على وجوده من خلال مخلوقاته وما أبدعه في هذا الكون، فقال في هذه الآية الجامعة الّتي جمعت بعض مخلوقاته: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ… ﴾ فالإنسان مخلوق، وعندما خلقه الله سبحانه وتعالى أعدّ له مقوّمات الحياة، فالسّماء تُظلّ الإنسان، والأرض تُقلّه، وهو بين زمان ومكان، والمكين الّذي هو الإنسان يكون بين زمان ومكان، الزّمان من تعاقب اللّيل والنّهار، وتعاقب اللّيل والنّهار آية تدلّ على أنّ الزّمن يسير بالإنسان إلى أجله ونهايته.
بيّن الله سبحانه وتعالى أنّه هو الّذي خلق السّماوات والأرض والزّمان والمكان
﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: من الآية 57]، وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ الأرض الّتي خُلِق منها الإنسان أكبر من خلقه هو، وعندما حُلّلت المواد الّتي يتكوّن منها الإنسان ويتكوّن منها طين الأرض، مع تقدّم العلم، تبيّن بأن هناك ستّ عشرة مادّة من المنغنيز إلى الأكسجين وغيرهما.. يتكوّن منها الطّين، ويتكوّن منها ذاتها الإنسان.
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه]، من الأرض خُلِق الإنسان وإليها يعود، يُدفن في الأرض بين التّراب ولقد خُلِق من تراب ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: من الآية 67].
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: لم يستطع أحد من الخلق أن يدّعي خلق السّماوات والأرض، أو خلق اللّيل والنّهار، أو خلق الشّمس والقمر، أو أنّ تعاقب اللّيل والنّهار من صنعه، فالله سبحانه وتعالى هو الّذي قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان].
﴿خِلْفَةً﴾: أي أنّ اللّيل يخلف النّهار، والنّهار يخلف اللّيل، تعاقب اللّيل والنّهار يدلّ على حركة الأرض حول الشّمس، فالّذي خلق السّماوات والأرض وخلق تعاقب اللّيل والنّهار هو الله سبحانه وتعالى.
والفلك: يطلق على السّفينة، وكلمة الفلك هي جمع ومفرد، كما قال الله سبحانه وتعالى عن سيّدنا نوح عليه السَّلام: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ [هود: من الآية 38]، والمراد سفينة واحدة، فسيولة الماء الّتي تحمل الفلك والرّياح الّتي تُسيّرها، هي معجزة من معجزات خلق الله سبحانه وتعالى ولولا هذه السّيولة في الماء لما كان هناك فلك تجري في البحر.
﴿وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾: هل الماء في السّماء أم في الأرض؟ الماء في الأرض، لكنّه ينزل من السّماء، ويغطّي ثلاثة أرباع الأرض ماءُ البحار والمحيطات والأنهار، وتشكّل اليابسة ربع الأرض فقط، وكلّما اتّسع سطح التّبخّر كانت سرعة التّبخّر أكبر، فتتبخّر هذه المياه وتصعد إلى السّماء، وبعدها يحدث هنالك بخر وتكثيف، وتلقيح مع الرّياح واختلاف بالنّسبة للبرودة والحرارة ممّا يؤدّي إلى نزول الماء، إذاً أصل الماء من الأرض، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الرّوم]، ولكن في الأرض مياه البحار والمحيطات محفوظة بمواد وهي غير صالحة للشّرب، حفظه الله من الفساد، فالله سبحانه وتعالى خلق كلّ شيء صالحاً، وما أُفسِد شيء في الأرض والكون إلّا بيد الإنسان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الرّوم: من الآية 41]، فلا يوجد فساد في الأرض، ولا في البحر، ولا في الجوّ من خلق الله جلَّ جلاله، وإنّما من صنع البشر، البشر هم الّذين أفسدوا البحار ولوّثوا الهواء، هم الّذين أفسدوا القيم، وهم الّذين أفسدوا البشر، بينما الله سبحانه وتعالى جعل كلّ شيء صالحاً ومُعدّاً لاستقبال الإنسان، ومنها أنّه حفظ الماء في الأرض: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون]، ثمّ تأتي عمليّة تبخّر الماء، ولو أنّنا نريد أن نقطّر ماءً ونجعله صالحاً للشّرب، فإنّنا نحتاج مصانع كبيرة، وهناك معامل إلهيّة تعمل ليل نهار على تبخير المياه وإعادتها إلى الأرض، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ لأنّ الأرض تعيش على الماء ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحجّ: من الآية 5].
﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾: الدّابّة: كلّ ما يدبّ على الأرض من إنسان أو حيوان، وكلّ هذه الأمور الّتي يذكرها سبحانه وتعالى يدلّ بها على أنّه هو الخالق، يدلّ بها على الآية السّابقة: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، ما الّذي أدرانا أنّ الإله واحد؟! لأنّه لو كان هناك إله آخر لقال: أنا خلقت هذا الخلق.
﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾: أي تحويل الرّياح؛ لأنّ الرياح لو كانت باتجاه واحد لأرهقت الإنسان، لكنَّ تصريف الرّياح رحمة، فمرّة شرقيّة ومرّة غربيّة وأخرى جنوبيّة غربية… وهكذا.
﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾: المسخّر: هو الّذي يُحمَل على حركة لا يستطيع أن يقرّها هو، وإنّما يؤدّي المطلوب منه، مثلاً هذا السّحاب مسخّر ليسقط في دمشق، سخّره الله وتمّ التّبخّر وتمّت عمليّة إعداد الماء في غير دمشق، وساقته الرّياح لتسقط المياه في دمشق، هذا السّحاب مسخّر ليُنزل الماء في المكان الّذي سخّره له المسخّر سبحانه وتعالى، وهذا يدلّ على أنّ إلهكم إله واحد.
﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾: الآيات: معجزات دالّات بيّنات لمن له عقل، والله سبحانه وتعالى جعل مناط التّكليف هو العقل، لذلك نقول: إنّ دين الإسلام هو دين العقل، ولا يدلّ الإسلام على وجود الله إلّا من خلال استخدام الملكة العقليّة، لذلك قال: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، إذاً هذه الآيات هي الّتي تدلّ على وجود الله سبحانه وتعالى؛ لذلك عندما حاجّ النّمرود سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: من الآية 258]، فاستخدم إبراهيم عليه السَّلام أحد الآيات الّتي تدلّ على وجود الله، وهي أنّ الله يأتي بالشّمس من المشرق في كلّ يوم.
وكلّ ما عدّده الله سبحانه وتعالى في هذه الآية هي معجزات تدلّ عقلاً على وجود الخالق، لا يمكن أن تكون خُلقت بالصّدفة، وبهذا التّرتيب وهذا النّظام، وقلنا: إنّ المؤثِّر يُعرَف من الأثر وأنت عندما تريد أن تُثبت وجود الله فانظر إلى خلق الله، وانظر إلى المعجزات الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى فإنّك ترى تجلّيات الله، هذه هي المحاجّة العقليّة، والإسلام يستخدم العقل والحجّة والبرهان لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، أمّا الملحد فلا يعتدّ بالعقل، فلو سألناه كيف خُلِقت الأرض؟ يُجيب أنّ الكون والشّمس والأرض والكواكب وُجِدت بالصّدفة أو بالتّطوّر، ولا يقتنع أيّ إنسان عاقل أنّ الصّدفة تخلق هذا النّظام، وهذا التّركيب، وهذه الشّمس الّتي تتحرّك بموازين ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرّحمن]، كلّ شيء عند الله بميزان وبمقدار وحسبان، ولو أنّ الشّمس اقتربت أو ابتعدت من الأرض مقداراً يسيراً من الميليمترات أو السّنتيمترات لأحرقت الأرض أو جمّدتها، فلذلك لا يمكن أن يكون الخلق صدفة، فأعطى الله سبحانه وتعالى كلّ هذه الآيات الّتي تدلّ على وجوده.
إنّ دين الإسلام دين العقل والعلم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [محمّد] ولم يقل: فقل: لا إله إلّا الله، من هنا نحن لا نناقش الآخرين وخصوصاً في عصر العلم والحضارة والتّكنولوجيا ونقول لهم أو نجبرهم على قول: لا إله إلّا الله، ولكن نقنع النّاس ونعلّمهم أن لا إله إلّا الله؛ لأنّهم سيعلمون وسيصلون من خلال العلم إلى أنّه لا إله إلّا الله.